العنوان لقرّاء من جيلي .. لعلّ الجملة التي “حيّرت مواجعي” واسالت حبري في اغنية لطفي بوشناق هي “ثمّشي ثنيّة يمّاه لبطنك ترجّعني” …يااه هنالك في تلك البيت من الاغنية اختلط الماضي بالحاضر والذاتي بالموضوعي …
الامّ عندي حسبتها واحسبها جنّة الحياة الدنيا ..الامّ هي رغم انف اعداء المرأة (الجهلة والمغفلين والمرضى والمعقّدين) هي الاصل ونحن جميعا الفروع ..ومهما خدتنا المدن وخدونا ناس المدن دايما صورتك في قلبي دليلي في المدن .. الامّ ايضا هي ارشيف لزمن ما ..وانا ومن عاصرني من جيلي عشنا زمنا لا ولن يعرف كنهه شباب اليوم …زماننا كان زمن الفقر الجميل زمان الخصاصة الممتعة زمان بعضه عاصر الاستعمار الفرنسي واعوانه (اعوانه في مدينتي كانوا يسمّون اليد الحمراء) اي اصحاب الايادي التي امّا تلوثت بدماء اهل بلدهم غدرا وخيانة او ساعدت المحتلّ طمعا في بعض الصوارد ـ جمع صوردي ـ وهي العملة المستعملة انذاك ورغم وضاعة قدره ومن ثمة جاء المثل الشعبي “كيف الصوردي المنقوب” احتقارا لقيمته ..فانّ الوضيع يطمع حتى في “صوردي وضيع” …
زمني كذلك عاصر دولة الاستقلال بحلوها ومرّها وعاصر مرة اخرى القمل والميزيريا و”السّخَطْ” … وهي حقيقة يسخر منها بعض السياسين المنافقين وهم يسردون وبسخرية ما قيل عن ذلك العصر ..عصر بورقيبة ..انا عاصرت زمن بورقيبة منذ السابعة من عمري وحتى رحيله ..وكأيّ طفل وانا انذاك طفل نعم كان هنالك القمل والبقّ والعقارب بالحفنة ..وكنت فخورا جدا برئيسي وبـ “يا سيّد الاسياد يا حبيبي بورقيبة الغالي” وبـ “يا حبيب تونس يا عزيز علينا” … وتعاظم فخري وانا في بداية مراهقتي ومع احداث معركة الجلاء ببنزرت وعليّة تشدو بافضل اغنية وطنية على الاطلاق “بني وطني يا ليوث الصدام وجند الفدى” وكبرنا واشتدّ عودنا في الوعي السياسي وعارضنا سياسة بورقيبة بالسبل المتاحة لنا.
ارتكب الزعيم اخطاء عديدة ولكن وللامانة وبعد تقدم العمر ورحيل الزعيم اكتشفت وايقنت في تقديري الخاص امرين هامين ..اولهما انّ كرسي قرطاج لم يملأه ايّ كان بعد الزعيم …جميع من اتوا بعده هم غشاشر قياسا ببورقيبة ..وثانيهما انه من ميزات بورقيبة وجلّ زعماء ذلك العصر عبد الناصر، تيتو، نهرو، ومهما اتفقنا او اختلفنا في تقييمهم نجحوا أيامها في خلق اهم ما يمكن خلقه لدى الفرد: الحلم … وعندما تخلق الحلم وتزرعه في اوصال المواطن تستطيع كزعيم ان تبني ..والزعيم بورقيبة بنى الدولة ..وكلّ من يتحدث عنه اليوم بسخرية وتهكم عليه بالاعتراف فقط بانه لولا بورقيبة لما استطاع ان يصل الى ما وصل اليه اليوم …على الاقلّ انو يحلّ كشختو ويستعرض عضلاتو المعرفية .. خاصة انّ من جاؤوا بعد 14 جانفي 2011 ان نجحوا في تحقيق انجاز ما في تونس، فقد نجحوا في زرع الكوابيس داخل الافراد وبين الاحلام والكوابيس بون رهيب .
اعود لما ذكرته في بداية مقالي وانا احكي عن الفقر الجميل والخصاصة الممتعة …وها انا افسّر …لانّ السؤال يُطرح ..هل هنالك فقر جميل واخر قبيح ؟؟ نعم ..انا من جيل كنّا نرتدي القبقاب في ارجلنا ونحن ذاهبون الى المدارس ..كنا نرتدي قميصا واحدا ثمنه لا بتجاوز بعض الصوارد وان تهرّا يقع ترقيعه ..كنا فعلا لا ناكل حتى نجوع واذا اكلنا فلا نشبع ..كنا وكنا وكنا ..وذاك الفقر علمنا المثابرة والصبر وخاصة الحرص على البناء ..هاتوا لي اليوم تلميذا واحدا يقبل ان يذهب الى مدرسته بقبقاب ؟؟
نعم الفقر لم ينته ..نعم الفقر وخاصة بعد جانفي 2011 تفاقم …ولكن تعاملنا معه تغيّر تماما …ما احكيه عن الملابس صالح لكلّ مظاهر الحياة الاخرى من العاب وعلاقات وجيران واصدقاء وزملاء … وما نحبش نحكي على السياسة والسياسيين لانّ امهرهم في الفعل السياسي اليوم، ما يجيش في ظفر بورقيبة ..والعبد لله توقفت مرتين في مسيرتي الاعلامية في عهد بورقيبة لانّ خطابي لا يعجب الحاكم …و اعي ما اقول . وكان يمكن ان اكتب اليوم كلمات اشهّر بها بالزعيم الراحل وبكل اخطائه وعيوبه .
لم افعل ولن افعل لسببين اولهما اذكروا موتاكم بخير وثانيهما هنالك محللون وناقدون ومؤرخون هم الاجدر بدراسة علمية صادقة للشهادة حول ما لبورقيبة وما عليه …. والان عندما يختلط الحابل بالنابل والذاتي بالموضوعي ومهما كانت درجة الامل في الغد لتجاوز اوضاعنا الكارثية وهو ما ارجوه لكل اطفالنا واحفادنا، فانّني وفي لحظة نوستالجيا عابرة اغنّي وبالصوت العالي “ثمّشي ثنيّة يامّه لبطنك ترجّعني” …