سرديار

خريف البطريرك

نشرت

في

مع كل هذا البهرج يخيل للمرء أنه في ثكنة، علمته أن يقرأ بعد الغداء الجريدة الرسمية التي عينوه صاحبها و مديرها الشرفي، كانت تضعها له بين يديه عندما تراه مسترخيا على أرجوحته تحت ظل شجرة القابوق الضخمة في الفناء العائلي إذ ليس من المعقول كانت تقول له، أن يجهل رئيس دولة ما يحدث في العالم، كانت تدس له بنظارتيه المذهّبتي الإطار فوق أنفه و تتركه يتخبط في قراءة أخباره الشخصية  بينما هي تدرب الصغير على التقاط كرة من المطّاط و رميها، و هي رياضة تمارسها الراهبات…

<strong>غابرييل غارسيا ماركيز<strong>

و في غضون ذلك كان هو يكتشف نفسه في صور جد قديمة يعود أكثرها إلى صنو قديم له، مات بدلا منه و قد نسي اسمه، كان يكتشف نفسه وهو يترأس جلسة الأربعاء لمجلس الوزراء الذي لم يعد يحضر اجتماعاته منذ زمن النجم المذنّب، كان يكتشف جملا تاريخية ينسبها إليه وزراءه المتعلمون، كان يقرأ محركا رأسه برفق في حرارة ظهيرات أغسطس المنبئة بالعواصف، و كان يغوص قليلا قليلا في حساء عرق القيلولة مهمهما، يا للفوضى بئست هذه الجريدة، لست أفهم كيف يقدر القوم على قراءة مثل هذه الورقة السخيفة…

و رغم ذلك كان يستحصل القليل من تلك القراءات الخالية من المتعة ذلك أنه كان يستيقظ من نومه القصير و الخفيف بفكرة جديدة مستوحاة من قراءاته، فكان يرسل ليتيسيا نازارينو لتملي أوامرها على وزرائه الين يجيبونه عبر الوسيط نفسه محاولين سبر أغوار تفكيره عبر فكرها هي، لأنك كنت كما شئت أن تكوني، لسان حال إرادتي العليا، كنت صوتي، كنت عقلي و قوّتي …

كانت أذنه الأكثر وفاء و الأكثر يقظة في الصخب من الحمم الأبدية في العالم المنيع الذي يحاصره، مع أن وسائط الوحي الأخيرة التي تتحكم في مصيره إنما كانت في الواقع الكتابات السرية المخطوطة على جدران مراحيض المستخدمين، فكان يتهجى من خلالها الحقائق السرية التي لم يكن أحد ليجرؤ على كشفها له، بمن فيهم أنت، ليتيسيا، كان يقرؤها في الفجر لدى عودته من الإسطبل بعد حلب الأبقار، قبل أن يمحو ذلك الجنود الوصفاء المكلفون بالتنظيف…

لقد أمر بإعادة تبييض جدران دورات المياه بالجير كل يوم حتى لا يتمادى أحد في التنفيس عن أحقاده الشخصية، و بهذه الطريقة أدرك جفاء القيادة العليا، و النوايا المكبوتة لدى أولئك الذين كانوا يزدهرون في ظله و يتخلون عنه وراء ظهره، كان يحس بأنه سيد كل سلطته عندما ينجح في اكتشاف أحد ألغاز القلب البشري في مرآة جريدة الأوباش الكاشفة، و عاد إلى الغناء بعد أعوام عديدة متأملا عبر ضباب الكلّة الناموسية نوم الحوت الصباحي الجانح، نوم زوجته الوحيدة الشرعية ليتيسيا نازارينو…

انهضي، كان يغني، إنها السادسة في  قلبي، و البحر دائما هناك، و الحياة تتواصل، ليتيسيا، الحياة غير المتوقعة للمرأة الوحيدة، من بين نسائه العديدات، التي حصلت منه على كل شيء سوى حظوة أن تراه يستيقظ صباحا بجانبها، ذلك أنها كان يغادرها حالما يكون قد انتهي من ممارسة الحب معها للمرة الأخيرة، فكان يعلق فوق باب غرفته، غرفة الأعزب المتصلب، مصباح الانطلاق نحو الكارثة، ثم يغلق الرتاجات الثلاثة، والمزاليج الثلاثة، و الدعامات الثلاث، و ينبطح على الأرض، وحيدا مرتديا ثيابه، كما فعل ذلك في كل الليالي، قبلك، و كما فعل من دونك حتى آخر ليلة له من ليالي الغريق المتوحد،…

و بعد انتهاء حلب الأبقار كان يلتحق بغرفتك و رائحتها الشبيهة برائحة حيوان ليليّ ليواصل إعطاءك كل ما ترغبين فيه، أكثر بكثير من إرث أمه بندثيون ألفارادو الواسع، أكثر بكثير مما حلم به أي شخص على هذه الأرض، و ليس من أجلها هي فقط و إنما من أجل ذويها الذين لا ينتهون و الذين كانوا يصلون من جزر الأنتيل الصغيرة المجهولة بلا ثروة أو سند سوى جلودهم و لقبهم نازارينو، عائلة فظّة من الرجال العنيدين والنساء الجشعات استولوا على احتكارات الملح و التبغ، و ماء الشرب، و هي امتيازات قديمة كانت سابقا ممنوحة إلى قادة مختلف القوات لإبقائهم بعيدا عن طموحات أخرى … و قد اقتلعتها منهم ليتيسيا نازارينو شيئا فشيئا بفضل أوامر لم يوعز بها لكنه أقرها، موافق، كان قد ألغى التنكيل الوحشي بواسطة الفسخ وحاول استبداله بالكرسي الكهربائي الذي وهبه له قائد البحرية لكي نستفيد نحن أيضا من أداة إعدام أكثر حضارة …

(من ترجمة لـ: محمد علي اليوسفي)

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version