جور نار

عبد القادر المقري: خلفاء … و لكن ليسوا راشدين !

نشرت

في

عندما تكلم سفير الاتحاد الأوروبي السابق عن تونس منذ أكثر من سنة و في لغة غير ديبلوماسية، قامت القيامة عليه … اشتعلت النار في نخوتنا نحن الذين ودعنا النخوة منذ عشرة أعوام على الأقل، و ثارت كرامتنا فجأة و في نفس الوقت كان ساستنا يمدون اليدين أمام مائة باب موصد … و جاءت الردود العنيفة من كل حدب و صوب، و حتى من جهات هي في العادة بحيرات ساكنة ساكتة كاتحاد الصناعة و التجارة …

<strong>عبد القادر المقري<strong>

و كلنا الآن يذكر أن السفير “بيرغاميني” قال عاليا ما كنا نقوله واطئا طوال عقود، و لم يزد كثيرا عما سربه الراحل هشام قريبع في كتاب خرج باسم صحفيين فرنسيين في التسعينات و عنوانه “العائلات السبع التي تنهب تونس” … لم يزد؟ بل زاد، و لكن في العدد فقط … فقد انضافت إلى عائلات النهب مجموعات و أحزاب ممن حلبوا بقرة الثورة بعد 2011، فاقتسموا مع القدامى و ابتزّوهم و سمسروا بقائمات عبد الفتاح عمر عن الثراء غير المشروع،  و “شربت” تلك القائمات إلى درجة أنه لم يبق فاسدا في البلاد سوى أنا و أنت و أمي و أمك رحمهما الرحمان …

مختصر الحكاية أن تونس تحكمها اقتصاديا مجموعة صغيرة العدد من العائلات المسيطرة على كل قطاع فيه مال … و خاصة تلك الأنشطة الريعية التي لا جهد فيها و لا قيمة مضافة و لا تحقيق لثروة وطنية، بل جلوس على مكتب و فتح حساب تلج من أبوابه أرباح سهلة لا تتوقف … كمثل احتكار توكيلات الماركات الأجنبية (سيارات، أجهزة كهرومنزلية، تشغيل هاتف جوال، خدمات إنترنت …)، أو صناعة بعض المواد الاستهلاكية، أو ملكية المغازات الكبرى، أو الاستفادة من خوصصة الشركات العمومية و بيعها بأبخس الأثمان بعد تفليسها المتعمّد، أو الهيمنة على شركات تأمين تقبض الكثير و لا تسدد حتى القليل …

و توفر الدولة بأجهزتها أقوى صنوف الحماية لهذه العائلات … فتقيم حواجز إدارية معقّدة و نظام تراخيص صعبة المنال ضد كل من ينوي منافسة هذه العائلات … و تكلف شرطة المرور بملاحقة كل من لا يدفع معلوم التأمين و لو لم يكن هناك تأمين من الأساس … و تقف عائقا أمام مشاريع استثمار يقدمها شباب، و تسلط البنك المركزي على سيولة العملة الصعبة تضييقا و توسيعا حسب الوجوه، و تسمح للبنوك بترقيد ملفات المستثمرين الجدد أو تقييدهم بشروط ثقيلة مستحيلة في حين تفتح شوارع و حنفيات أمام العائلات المتنفذة … مع العلم بأن تونس بقيت من البلدان القليلة في العالم التي لا تنافس بين بنوكها في معاملة الزبائن، و لسبب بسيط فكل هذه البنوك تحت سيطرة نفس الأشخاص و اللوبيات القائمة …

و قد استشهد السفير بمثال حصة زيت الزيتون المعلب التي أسندتها “اللجنة الأوروبية” إلى تونس سنة 2018 و التي قيمتها 30 ألف طن … و ذكر متأسفا أن البلاد التونسية لم تستفد من هذه الحصة، إذ وقف لوبي تصدير زيت الصبة ضد هذه العملية التي كان يمكن أن يقوم بها باعثون شبان يتخصصون في قطاع التعليب … و فشلت المحاولة و خسرت تونس إمكانية التصدير المجزية تلك … و استخلص السيد “بيرغاميني” إلى أن التونسيين لا يعانون من هجرة أدمغة، بل قل من “طرد للأدمغة” بتوفير كل الظروف السيئة التي تجعل المهندس و الطبيب يكره نفسه و يغادر البلاد … و في نفس الوقت، تستريح منه تلك الطغمة المالية التي لا تريد لها شريكا أو منافسا في السوق التونسية …

و كما في عالم المال الحكم كله لأقلية من العائلات التي تتوارث السلطة و الثروة من العهد الحسيني إلى اليوم … فإن مجالات أخرى نحت النحو نفسه … انظر إلى قطاع الثقافة مثلا، فالمئات من فتياننا و فتياتنا يتخرجون من معاهد المسرح و السينما و تستقبلهم سوق البطالة … في حين يطلع نجم أحد أبناء العائلات بسرعة البرق، فيخرج مسلسله الأول، و الثاني، و ها هو يصور عملا ثالثا بمباركة و مشاركة من التلفزة الوطنية … لمجرد أن أباه مطرب معروف و تمرر أغانيه حال تسجيلها و بشكل يومي كأنها شارة رسمية … و تنحني رقاب كبار الممثلين لهذا المخرج الجديد الذي ما يزال تقريبا في سن الطفولة … و يتقربون له و يشيدون بعبقريته الفنية، في حين أنه ما زال في السنة الأولى تقنية و تمرّسا، و لكن الخبزة مُرّة كما يقال …

في السينما، مات أحد المنتجين منذ سنوات بعد أن “غوّص” من مال الدولة التي فوتت له أيضا في الشركة الوطنية “ساتبيك” بعد خوصصتها في ظروف تفليس مريبة كباقي المؤسسات العمومية الشبيهة … شركة السينما العمومية بقاعاتها و تجهيزاتها و بناءاتها و مختبرها في أرقى مكان من العاصمة … رحل المنتج الكريم عن دنيانا، فآلت نفس الامتيازات إلى نجله الأكرم الذي تحول بدوره إلى منتج محظوظ … علما بأن خطة “منتج سينمائي” لا وجود لها في تونس فلا أحد يصرف من جيبه، و إنما هي لعبة تدوير نفقات عمومية تسندها وزارة الثقافة و يتولى المعنيون بالأمر توزيعها على من يشاؤون و كيفما يشاؤون …

و في نفس منطق الاستفادة من ريع الدعم الثقافي، ينجب المخرجون مخرجين آخرين … فهذه ابنة لمخرج معروف تتحول بدورها إلى مخرجة مدعومة كامل الدعم كما كان والدها و من نفس الشبكة … و هذا مخرج شاب توفي في حادث تصوير فيلمه الأول بعد أن عاش أبوه و أفلام أبيه من حنفية الدعم العمومي … و هذا ولد آخر يرث عن أبيه فرقة الرشيدية و قد توفيت الفنانة زهيرة سالم مؤخرا و هي تدعو بالشرّ على الولد و بقلّة الرحمة على الوالد و كلاهما جعل من الفرقة العريقة رزقا خصوصيا و سيفا بتّارا على كبار الفنانين … و كان أحد ضحاياهما الموسيقي الراحل عبد الحميد بالعلجية …

و تتوالى الأيام و الأعوام و الأعمال المدعومة و المهرجانات … و تتوالى معها الأسماء المتناسلة من أسماء، و يعمُر “جينيريك” كم مسلسل أو فيلم بألقاب عائلية بعينها، و مع الأسماء و الألقاب تحويلات بنكية و إحالة نفوذ و تبشير بأن الخلف ضامن و مضمون لاستمرار السلف …

و يأتي بعد ذلك من يقول لك إن الموهبة لا تورث … الموهبة ممكن، و لكن الثروة و الحظوظ تورث عندنا و تنتقل من يد إلى يد من نفس اللون و الجينات … و لهذا بقينا و سنبقى في قاع السلة، بجوار السقاطة من الخضر و الغلال …

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version