حلمت ليلة العيد _ خير اللهم اجعله خير _ أن رئيس الحكومة التونسية و رئيس الجمهورية قد وقفا يخطبان في الشعب جنبا إلى جنب.. و قد صرّحا بعد تبادل العناق و القبل مهنئين بعضهما و الشعبَ التونسي بعيد الفطر المبارك، أن لا مجال للخلاف و الشقاق بعد اليوم و أن تونس أمانة في رقبة كل من تولى السلطة، و أعلنا عن مجموعة من المبادرات و الإصلاحات التي يلتزمان بتنفيذها. و من أهم ما صرّحا به أن تونس قررت عدم اللجوء إلى الإقتراض من صندوق النقد الدولي و أنها ستعتمد على مواردها الذاتية و على إرادة أبنائها من أجل تجاوز الأزمة الاقتصادية الخانقة و أنّها سـ …
و لكن صوت الوالدة توقظني حرمني من مواصلة الحلم اللذيذ لأنهمك في ما بعد في ما هو ألذّ،. و هل ألذّ من الشرمولة و الحوت المالح في صباحات أعياد صفاقس… غير أنّ هذا الحلم اللذيذ رافقني طيلة اليوم و رافقتني معه الأسئلة الدافعة إلى البحث و التفكير ، و من غير ” العم غوغل” ينجدني في مثل هذه الظروف ! ـ و بالمناسبة أشكر الكفّار الذين صنعوه و وضعوه بين أيدينا و أتاحوا لنا البحث بأيسر السبل ـ بحثت عن بلدان عاشت تجارب مماثلة و قمت ببعض المقارنات البسيطة فوجدت أنّ التاريخ قد حدثنا عن حكام استطاعوا التخلص من هيمنة صندوق النقد الدولي و شروطه المجحفة و حكومات نهضت بشعوبها و بلدانها و مكنتهم من العيش الكريم بالاعتماد على ذاتها و طورت قدراتها للتخلص من التبعية النقدية و المالية و الوصاية التامة لهذه المؤسسات “المانحة”.
ولن أطيل في تعداد الأمثلة بل سأقتصر على ذكر تجربتيْ البرازيل و ماليزيا فحسب… ماليزيا مهاتير محمد التي لم تقبل مساعدات الصندوق حينما مرت ماليزيا بأزمة النمور الآسيوية في أواخر التسعينات ، ومع أن الدول الاسيوية المتضررة من الازمة قد استجابت لتوصيات الصندوق، إلا أن مهاتير محمد رفض هذه التوصيات، وطبق سياسة مالية معاكسة لها، وقد استطاعت ماليزيا تخطي أزمتها المالية ونجحت في تعزيز عملتها (الرينجت)، بل إنها خرجت بأقل الخسائر مقارنة بدول أخرى مثل الفيلبين وكوريا الجنوبية واندونيسيا..
و يبرر مهاتير محمد رفضه للّجوء إلى الصناديق الدولية بقوله : “عندما نقترض المال منهم، فإن الشرط الذي غالبًا ما يفرضونه، هو أن يكون لهم يد في إدارة اقتصاد البلاد، ومواردها المالية.” لقد نجح مهاتير في إدارة أزمة الاقتصاد الماليزي بعيداً عن صندوق النقد، كما نجح في تحويل ماليزيا إلى عملاق اقتصادي بعد أن كانت دولة ذات اقتصاد بسيط يعتمد على الزراعة وحقول المطاط، و كل ذلك بفضل مراهنته على طاقات البلاد و الرأسمال الوطني و الاستثمار في المشاريع الكبرى و توفير مناخ اقتصادي يفتح أبواب المنافسة و يحث على الاستثمار و إعطاء الأولوية للتعليم و الصحة و بناء رؤية استشرافية لماليزيا على امتداد 30 سنة و هو ما جعل الاقتصاد الماليزي اليوم رابع أكبر اقتصاد في جنوب شرق آسيا ورقم 38 في العالم.
أما التجربة البرازيلية فلا تختلف كثيرا ففي الثمانينات مرت البرازيل بأزمة اقتصادية طاحنة… فذهبت للإقتراض من صندوق النقد الدولي معتقدة أنه الحل لأزمتها الاقتصادية.. ورغم استجابة حكومة البرازيل لكل الشروط فقد تفاقمت الأزمة أكثر وأكثر وأصبح 1% فقط من البرازيليين يحصلون على نصف الدخل القومي.. و أصبح ملايين المواطنين يعيشون تحت خط الفقر، الأمر الذي دفع بقادة البرازيل إلى الاقتراض من الصندوق مرة أخرى معتقدين أنه الطريق للخروج من الأزمة… فتدهورت الأمور حتى هدد الصندوق بإعلان إفلاس البلاد إذا لم تسدد فوائد القروض، و رفض إقراضها أي مبلغ في نهاية 2002… وانهارت العملة…
حتى جاء عام 2003… وانتخب البرازيليون رئيسهم لولا دا سيلفا الذي قال كلمته الشهيرة “التقشف ليس أن أُفَقِّرَ الجميع بل هو أن تستغني الدولة عن كثير من الرفاهيات من أجل دعم الفقراء.. مؤكدا أنّ صندوق النقد لم ينجح إلا في تدمير البلدان .. اعتمد داسيلفا على أهل بلده فرفع الضرائب على رجال الأعمال والفئات الغنية من الشعب… و منحهم في المقابل تسهيلات كبيرة في الاستثمار وآلية تشغيل وتسيير أعمالهم ومنح الأراضي مجانا و سهّل التراخيص و أعطت الدولة قروض بفوائد صغيرة لمساعدتهم في فتح أسواق جديدة و بذلك لم يشعروا أنها جباية… بل يدفعون ضرائب مقابل تسهيلات عادت عليهم بمرابيح بأضعاف قيمة الضرائب..
و بعد ثلاث سنوات فقط عاد مليونا مهاجر برازيلي وجاء معهم أكثر من مليون أجنبي للاستثمار والحياة في البرازيل… و في ظرف أربع سنوات سدد كل مديونية صندوق النقد… بل إن الصندوق _الذي كان يريد أن يشهر إفلاس البرازيل في 2002 ورفض إقراضها لتسدد فوائد القروض _ اقترض منها 14 مليار دولار أثناء الأزمة العالمية في 2008. و بفضل تركيز دا سيلفا و حكومته على أربعة مجالات هي الصناعة، التعدين والزراعة وطبعا التعليم صارت البرازيل سادس أغنى دولة في العالم في آخر عام لحكمه…
نعود الآن إلى تونس.. أليس من حقنا أن نحلم ببلد قادر على التخلص من التبعية إلى الصناديق الدولية و من التسول و الاستجداء إلى درجة اننا بلغنا مرحلة الإقتراض لخلاص الديون السابقة و قد بلغت مديونية تونس 100 ألف مليار ! ؟ لن أتساءل اليوم أين ذهبت كل تلك الأموال و فيم أنفقت و الحال أن المواطن زاد فقرا و قدرته الشرائية ازدادت ضعفا و لكن سأقول ألا يكفي تداينا؟ أ ليس لدينا من الإمكانيات ما يسمح بالتخلّي عن سياسة الاستجداء و التسوّل و تقليص حجم الديون لو قمنا بمراجعة نظامنا الاقتصادي و فَعّلنا الحكومة الرشيدة؟
إن لتونس إمكانيات و طاقات كبيرة تجعلها قادرة على التخلص من براثن الديون، طاقات بشرية و موارد طبيعية و خاصيات و مميزات حضاريّة و جغرافية تنتظر فقط من يحسن استغلالها و ذلك ممكن إذا ما تقلّص الصراع السياسي و حرص الفرقاء على إقامة حوار جدّي أو حتى اتفقوا على هدنة سياسية من أجل إنقاذ الاقتصاد.. و إذا ما عملت الحكومة على إنفاذ القوانين بصرامة حقيقية فمنعت التهريب و فعلت القوانين التي تدمج “الكناترية ” في الاقتصاد الرسمي،و حاربت التهرب الضريبي و استخلصت القروض التي حصل عليها الكثيرون دون وجه حق …
و أيضا إذا منعت الحكومة الاعتصامات العشوائية و أمّنت الإنتاج في الفوسفات و البترول و عقدت اتفاقا مع اتحاد الشغل من أجل إيقاف الإضرابات و التوقف عن المطالب القطاعية و قامت بإصلاح المؤسسات العمومية و ألغت الامتيازات الوظيفية التي تثقل كاهل الدولة و خلقت مناخا سليما للاستثمار بالقضاء على الكارتيلات الاحتكارية و إدخال المنافسة بإلغاء الرخص و تعويضها بكراس شروط و أنهت هيمنة بعض المؤسسات على عديد القطاعات و تخلّصت من البيروقراطية و يسرت طرق إنشاء المؤسسات و تنفيذ المشاريع للباعثين الشبان و ركزت على الاعتناء بمجالات الفلاحة و التعليم و الصحة…
هذه بعض مقترحات تجعل من النهوض من التخلف و تطوير الاقتصاد أمرا غير مستحيل . إنها إرادة وإدارة قادرة في سنوات معدودة على تغيير وجه البلاد و وضع المواطنين إذا ما اتفق الجميع على التضحية و العمل بجدّ و تحسين الإنتاج و الإنتاجية و نبذ التواكل و الجلوس على الربوة و الإكتفاء باللوم و الانتقاد… سنوات معدودة قادرة على تحويل مطالب جانفي 2011 إلى حقيقة ” شغل، حرية، كرامة وطنية…
لا شغل و كرامة و لا حرية مع سياسة التداين و الرضوخ للاملاءات الخارجية… فهلاّ وضعنا هذه النماذج و الإمكانيات أمامنا و حلمنا سويّا!! و هل مازال في العمر و الوطن متّسع للحلم !!؟؟