دار الشهيد التي يلتقي فيها الشهداء في كلّ مناسبة ليتناقشوا في أمور البلاد … هل تذكرونها ؟ نعم هي تلك، تلك التي اقترحتها ذات يوم النائبة (بمعنييها) سنية بن توميّة … !!
دار الشهيد تفتح اليوم أبوابها و نوافذها ليكون أهلها شهودا على ضياعنا و تخبّطنا …
سكّانها أولئك الذين آمنوا يوما بأنّه يمكنهم التغيير فسقطوا بعد احتراق البوعزيزي و اندلاع شرارة الاحتجاجات في عدد من المناطق التونسيّة، خاصّة جهة القصرين و تالة و قفصة و منزل بوزيان و غيرها من المناطق الدّاخليّة … و توالى سقوطهم على امتداد عشريّة كاملة على غرار الشارني و نقّض و السلطاني و البراهمي و بلعيد و ضحايا الإرهاب من الأمن و الجيش …
هاهم اليوم يجتمعون حول قهوة مرّة و يرقبون خصامنا و عراكنا و تقهقرنا و تأخرنا، يلحظون تعامل سياسيينا مع بلادنا بعقليّة “هربَ طاهرٌ بكُرَتي”، يرون بلدا دافعوا فيه عن حق 400 ألف عاطل عن العمل فصاروا 800 ألف، دافعوا فيه عن كرامة الفرد فصار سكّان إحدى ولاياته يعيشون تحت النفايات ثلاثة أشهر بأيامها و لياليها، دافعوا عن الحرّية و الدّيمقراطيّة فصارت تسيّبا واستهتارا و انقساما لا يبدو أنّ البلاد ستخرج منه سالمة … قد يقول البعض نعم هذه هي الديمقراطيّة، والاختلاف أمر محمود و لكنّهم نسوا أنّ اختلافاتنا ترافقها عبارات الشتم و التّخوين و الوصم و تصحبها شيطنة الخصوم و تشويههم و منعهم من السفر وتلفيق القضايا و الزّج بهم في السجن ..
ليلة انتشاء الجماهير التونسية بمرور المنتخبين التونسي و الجزائري إلى الدّور النهائي من كأس العرب، انتشى البعض بمتابعة حوار صحفي مع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون أشعرنا بالفرق الشاسع بين “ديمقراطيتنا” – إن صحّ اعتبارها كذلك – و ديمقراطيّتهم . و دون الحديث عن مضمون الحوار، فلكلّ بلد خصائصه ومشاكله و قضاياه الحارقة، و لكنّ لشكل الحوار دلالاته الكبيرة … صحفيّان يتحاوران مع الرئيس يجلس ثلاثتهم على نفس النّوع من الكراسي في بساطة أنيقة و يبدو السائلان أكثر راحة في جلستهما من المسؤول … استعداد لكلّ فقرة و لكلّ سؤال … حوار مدعوم بالصور و الفيديوهات … ثقافة سياسيّة واضحة و إلمام بالمواضيع و قدرة على النّقاش بالأدلّة و البراهين …
و في المقابل ماذا نجد في بلادنا؟ ندوة صحفيّة مع الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس دون صحفيين – فكلّ الأسئلة المحتملة وقعت الإجابة عنها و لا ضرورة لحضورهم حسب ما صرّح به وليد الحجام أحد مستشاري الرّئيس – و ندوة صحفيّة أخرى مع الرّئيس الجزائري عبد المجيد تبون اختارت فيها مؤسّسة الرئاسة المتحاورين و فرضت فيها عدد الأسئلة بل أكثر من ذلك إذ طلبت من الصحفيين ألّا يُوجّهوا أسئلتهم إلاّ إلى الرئيس الجزائري … بلاغ من رئاسة الحكومة يمنع المسؤولين من الإدلاء بأي تصريح أو حوار إعلامي إلا بعد موافقة رئيسة الحكومة …
هذه هي ديمقراطيتنا التي يتابعها الشهداء من دارهم فيفخرون بنا و بما نعيشه .. هذه الديمقراطيّة التي يقرّر فيها فرد واحد كلّ شيء و ما على البقيّة إلاّ تقديم فرائض السّمع و الطّاعة و إلاّ اعتبروا حشرات ومخمورين و خونة كما ينعتهم الرئيس في كلّ مرّة … و هو ما تكرّر أيضا في خطابه يوم 13 ديسمبر الذي تجاوز الأربعين دقيقة خصّص منها النصف ساعة الأولى كاملة لمهاجمة خصومه، حيث استعدى الجميع ووجّه صواريخه الكلاميّة نحو كل الأطراف … فلم يسلم منه معارضوه الأصليون و لا من ساندوه في قرار 25 جويلية ثمّ تراجعوا بعد الأمر عدد 117 … و أحرق جميع مراكبه مع الأحزاب و المجتمع المدني و الهيئات الدّستوريّة و المنظمات الوطنيّة و على رأسها اتحاد الشغل … و لم يعد يجمع حوله إلا بعض الموتورين الحاقدين الذين يتلذذون سماع كلماته النّارية و يريدون القضاء على الماضي برمّته …
ثمّ خصص الجزء الأخير من خطابه للإعلان عن قراراته الجديدة و هي سبع لمّح لأغلبها سابقا … لكنّ الجديد هو استجابته للتسقيف الزمني الذي طالبه به التوانسة فصمّ أذنيه عن مطالبهم و قال لهم بأنّ الخرائط لا توجد إلا في كتب الجغرافيا .. و لكن و أمام انقطاع حنفيّة التمويلات و القروض الدّولية و مطالبة البلدان الأجنبية، خاصة بعد بيان مجموعة الدّول السبع بتوضيح إجراءات إمساكه بالسّلطة، استجاب سعيّد لهذه المطالب فكانت قراراته من نوع تريدون تحديد سقف زمني و توضيح الإجراءات؟ لكم ذلك “أما يا من عاش … ما تكلمونيش قبل عام آخر” ! لكن هل ستبتلع مؤسسات أمّك صنّافة الطعم و تقتنع بهذا المسار الذي فصّله سعيّد على مقاسه و مقاس طموحاته ؟
كلّ الإجراءات التي جاء بها وحده لا شريك له تهمّ الجانب القانوني و الدّستوري من أجل تغيير النظامين السياسي و الانتخابي، في فترة استثنائيّة و بطريقة معقّدة تنطلق من استشارة الكترونيّة بالإجابة عن أسئلة موجهة يقترحها هو و فريقه و لجان تجمع فحوى الاستشارة و تؤلف بينها، و استفتاء على دستور جديد قبل المرور إلى انتخابات تشريعيّة … إجراءات تخدم الرئيس و رغبته في تغيير الخارطة السياسية، و تركز مشروعه المؤسس على نظام رئاسي و اقتراع على الأفراد، وتمنحه فترة تسمح له بالحكم المطلق لمدّة سنة أخرى … و لكنّها – باستثناء قانون الصلح الجزائي الذي يشوبه الكثير من اللبس و الغموض – لا تولي أيّة أهمّية للوضع الاقتصادي و الاجتماعي، الذي تسبب فيما مضى في الانفجار الثوري غير المسبوق حسب تعبيره … و تسبب كذلك في احتجاجات عدّة لعلّ آخرها احتجاجات 25 جويلية التي استند إليها ليضمّ في قبضته كلّ السّلط
لم يقدّم سعيّد في خطابه أية رؤية أو أية حلول اقتصادية رغم تأزم الوضع المالي للبلاد … إلى حد أصبح فيه الحصول على قرض من الجزائر بقيمة 300 مليون دينار، إنجازا يستحق الاحتفاء و التهليل .. لم يتحدّث عن الوضع الاجتماعي و عن مبادرات لتشغيل الشبان العاطلين، لم يسطّر حلولا للقدرة الشرائيّة المتدهورة للشعب، لم يدع إلى الاستثمار أو إلى العمل، و كأنّه لا يعرف أن لا استقرار سياسيّ دون استقرار اقتصاديّ وأن لا استقرار اقتصاديّ، دون خطّة عمل دقيقة و إجراءات مطمئنة و خطاب واضح هادئ لا تشنّج فيه و لا نقمة و لا استعداء لطرف على طرف … و ها أن الواقع يوم أمس يؤكّد غضب الشباب و مناداتهم في أغلب الوقفات بالتشغيل و بتحقيق الرفاه الاقتصادي المنشود.
كان الشهداء يراقبون احتجاجات المعطلين يوم أمس في سيدي بوزيد إلى أن اندفع أحدهم و قد استبدّ به الإحباط و اليأس، ليغلق النوافذ و الشرفات و يلعن الشعب الذي أوصل كلّ من أمسكوا يوما بزمام الحكم … و يلعن اليوم الذي قرر فيه الانتفاض من أجل رفاه هذه البلاد.