داخليا

«دجبّة» الخصبة، تموت عطشا و جوعا: بلدة التين والزيتون … في بلد غير أمين

نشرت

في

المساكن في”دجبّة” متناثرة متقاربة متباعدة بحسب تشتت الملكيات و أهواء الظروف…و كل مسكن محاط ببستان تين وكل غصن ينحني لك مثقلا بهذه الحبات الشهية الزنوجة و الطعم و الرائحة … في إطار تتمطّى فيه مزارع التين على امتداد البصر: أشجار باسقة وارفة الظلال جذورها من جذور أهاليها و تاريخها الموغل في الزمن … عطاؤها من عطائهم و من نسغ تلك الأرض التي تنزّ خيرات و ماء، بقدر ما تنزّ أراضي الآخرين بترولا و غازا و شعرا جاهليا …

من بعيد تمتد صورة المنتزه- هذا الموقع الخلاّب مترامي الأطراف، و قد اخترقته مغاور نقشتها الطبيعة في خاصرة «جبل القراعة» الشاهق المتوّج بمحطة إرسال إذاعي … و هو يطل على كامل المنطقة و حتى النواحي المجاورة على كيلومترات … وقد زاده جمالا رذاذ الماء المنعش الذي ينثره شلال نازل من إحدى العيون في قمة الجبل …

كل ما تراه يوحي مبدئيا بالحياة الحلوة و العيش في دنيا الأحلام، أليس هذا ما يسميه الشاعر بـ “الماء و الخضرة و الوجه الحسن”؟ … الماء و اللون الأخضر نعم … لكن الوجه، و جه البشر، غير هذا رغم ملاحة مواطناتك هناك و طيبة أبناء المنطقة و لا مزيد على جمال طباعهم … فجمال الطباع و روعة الطبيعة لم يكونا كافيين لكي تحلو الحياة للمقيم و الزائر على حد سواء … و لم يشفعا ـ يا للمفارقة ـ  للقرية و لا لساكنيها.

… كالعير في البيداء يقتلها الظمأ

إذن وسط هذه “الكارت بوستال” على النمط السويسري، يصدمك مشهد تونسي وقح صرف: صورة كهل يمشي ببطء على خطى حمار متعب أجبر على صعود تلك الهضاب و النزول منها محملا بأربعة “أبّادن” مملوءة ماء.

يذهب في الظن أن الرجل حالة خاصة, لكنك تكتشف أن هذه الحالة معممة مألوفة عند أهالي المنطقة جميعا اذ تتالت من أعلى قمة الجبل صور الحمير حاملة على ظهورها ما استطاعت من اوعية لجلب الماء من أقصى الأرض.

تجيل عينك في المكان حيث تكثفت الحركة: حمار يصعد التل محملا واخر يهبط خاليا و ثالث ينتظر صاحبه في ساحة القرية. و بين الحين و الحين تمر شاحنة محملة بالأواني والصهاريج لتقف هي الاخرى غير بعيد عن موقف الحمير.

النزول من اعلى الجبل الى يبدو صعبا لكنه اقل صعوبة من صعوده مرة أخرى … هناك على مقربة من سفح الجبل شجرة تين عالية ظليلة وقد نبعت من تحتها عين ماء عذب تتفرع منها جداول صغيرة. هناك يصطفّ الأهالي لملء ما طالته أيديهم – بسياراتهم أو على ظهور حميرهم – من أواني بلاستيك بكافة أحجامها .

شركة المياه المقطوعة

« لو عدنا إلى الوراء مائة سنة مثلا، لكانت كل المشاهد مفهومة ملائمة لأطوار العصر … بل كانت ربما أفضل، بما أن الفلاّح هناك كان إمّا مالكا لأرضه الصغيرة، منتجا مستقلاّ لاحتياجاته القليلة، منسجما مع منظومة ريفية بسيطة تتعامل مع المواسم كما تتعامل في عيشها مع فصول السنة … أو أجيرا لدى كبار الملاّك من المعمّرين الأجانب، حاله من حال أبناء المستعمرات في كل القارات … و لكن داهمتهم بوهجها فرحة الاستقلال، ثم سرورالبناء و التشييد، ثم غبطة التحول، ثم السعادة العظمى بثورة 2011 …و وسط كل هذه السياسات، دخلت شركة غلال و توزيع المياه (سوناد) إلى القرية و تمّ استقبالها بكل الزغاريد الممكنة …

قرب العين كهل آخر ينكب على منبع العين و يكاد ينقسم ظهره لملء صهاريج كبيرة بالماء: « كل اهل المنطقة يتزاحمون على هذا النبع وينتظرون دورهم هنا تحت شجرة التين هذه. الحنفيات وصلت إلينا السنة الماضية فقط وقد فرحنا كثيرا بهذا الإنجاز غير ان فرحتنا لم تدم طويلا. فمع حلول الصيف بدأت رحلة انقطاع الماء الصالح للشرب: في بادئ الامر كانت تنقطع لساعات ثم لأيام و الآن لأشهر».

وأضاف قائلا: «لولا العيون الطبيعية لمات اهل المنطقة وماتت حيواناتنا وفلاحتنا» واهل الحوامدية يعيشون ويشربون من خير هذه العيون التي أهدتنا إياها الطبيعة.

إحدى النساء قالت بغضب: «أنتم اهل العاصمة لا تعرفون ظروف العيش هنا ولن تتمكنوا من العيش هنا: نحن اهل الريف نعاني صيفا وشتاء… نعاني البرد والجوع والعطش…نعاني الطبيعة القاسية التي ترونها أنتم جميلة وتتباهون بأخذ الصور التذكارية فيها».

هذه السيدة شابة في الثلاثين من عمرها غير ان ملامحها المتعبة تبدو أكبر سنا جلست بعيدا عن منبع العين تتمتم غاضبة: “الحنفيات في المنازل لا تعمل والسوناد ترسل لنا كل مرة فاتورة خيالية الثمن. جارنا وصلته فاتورة بقيمة ألف دينار وهو الذي يأخذ من هذه العين الطبيعية دون مقابل».

المنسيات … و سرقة لتمثال مريم

الغضب بدا واضحا على ملامح الجميع و لهم الحق في ذلك: منطقة خلابة تتوفر بها جداول وعيون و أنهار واهل المنطقة عطاشى…غاباتهم مهددة بالموت، أشجارهم المثمرة بما فيها “الكرمة” المعطاء الفريدة المذاق …وصغارهم يمضون الوقت في اللعب قرب الجداول و الحفر العميقة بحثا عن ظل يقيهم لهيب الصيف…المدارس الابتدائية بعيدة عن المساكن والمسالك الفلاحية وعرة والمنطقة تفتقد ابسط مقومات العيش الكريم.

مواطن من تيبار – قال: نحن أيضا نفتقد الماء الصالح للشرب و نقوم بدورنا برحلة يومية من تيبار الى هنا لنحمل كميات من الماء» وأضاف: كيف لمنطقة غنية بالأودية والعيون ان يفتقد مواطنوها الماء ومناطق أخرى تتمتع بالماء على مدار السنة رغم بعدها عن السدود ومنابع الماء؟

أجابه مواطن اخر: انها سياسة الدولة التي همشت منطقتنا و دللت جهات أخرى. ظروف عيش اجدادنا زمن الفرنسيين كانت أفضل: لقد كان الشمال الغربي أقل تهميشا …

وبخصوص تاريخ هذه المنطقة أضاف: كان يوجد على هذا الجبل دير للراهبات و كان تمثال مريم العذراء يتوسط هذا الغار غير انه سرق. «نحن أهالي دجبة فلاحون صغار نعيش من خير شجرتي التين والزيتون وما نتعب عليه في سنة نصرفه في شهر: الأسعار غالية والفلاحة تتطلب مصاريف والأولاد بحاجة للأكل والملبس والدراسة ونحن نعاني الامرين هنا».

العلاقة مع بلدية تيبار … وعود ليتها تتحقق

قال أنور الدجبي رئيس بلدية تيبار : « بلدية تيبار بلدية حديثة العهد بدأ ت سنة 2018 و هي تتابع أوضاع أهالي دجبة وقد برمجنا جملة من المشاريع التنموية لصالح دجبة وغيرها من المناطق المجاورة». بلدية تيبار تسعى الى جعل دجبة منطقة سياحية ايكولوجية بامتياز بما أنها تتمتع بطبيعة خلابة وهواء نقي. ومن اجل ذلك سنوفر كل مقومات هذا القطاع الواعد من تنوير عمومي وبعث مشاريع سياحية بالمنطقة على غرار مطاعم ومنتزهات ومقاهي ونعمل الان على تعبيد بعض الطرقات مثل الطريق الرابطة بين ريحانة وتيبار وتهيئة المسالك الفلاحية حتى يتسنى لزائر المنطقة التنقل بسهولة داخلها.

وفي ما يخص معضلة الماء الصالح للشرب أكد رئيس البلدية ان المجلس البلدي منكب على دراسة أسباب الانقطاع المتواصل للماء وهو يعمل مع السوناد لحل هذا الاشكال قريبا».

ثم أضاف: «دجبة انضمت الى منظومة التراث العالمي ضمن 63 منطقة ومن اجل ذلك سنسعى الى تحسين ظروف المنطقة تنمويا حتى تشع عالميا عبر استغلال الأراضي غير المستغلة وذلك بعد فض الاشكال العقاري لبعض الأراضي».

تقطير و مرقوم و شريحة

معلوم أيضا ان منطقة دجبة تزخر بمقومات الصناعات التقليدية من تقطير النباتات ونسيج المرقوم واللباس التقليدي والاكلة التقليدية (الشريحة).

ويشغّل قطاع الصناعات التقليدية عددا هاما من أبناء الجهة لاسيما المرأة الدجبية التي تنشط في عدة قطاعات سواء في منزلها الخاص او ضمن جمعيات. ومن المتوقع ان يكون لهذا القطاع افاقا واعدة خاصة لارتباطه الوثيق بالقطاع الفلاحي في المنطقة خاصة مع انطلاق مشروع «الالياف النباتية» المخصص لمنطقة دجبة.

منطقة غنية فوق الأرض و تحتها … و البؤس إرادة سياسية، محلية و شخصية

دجبة منطقة لها تاريخ اصيل يعود الى قرابة 4000 سنة قبل الميلاد حسب الحفريات والمعالم الأثرية

و هي غنية جغرافيا تشمل جبل «القراعة» الذي يرتفع 1000 متر على سطح البحر و تقف على مائدة مائية نشيطة تتواجد بها عيون طبيعية (قرابة 30 عينا لكن بحكم التحولات المناخية توقف تدفق العديد منها وبقيت فقط خمسة عيون رئيسية)..

أحد أبناء دجبة قال: «تاريخ دجبة مرتبط بشجرة التين وعيون الماء وجبل القراعة» ومن المهم جدا تثمين هذه العوامل الثلاثة لإحياء تاريخ هذه المنطقة. وكخطوة أولى بعثنا مهرجان التين منذ سنوات من اجل التعريف بهذا المنتوج الطبيعي ذي الفائدة الصحية الكبيرة والمعترف بها عالميا».

أطفال المنطقة “المعترف بها عالميا” التقيناهم حيثما تجولنا في دجبة يلعبون قرب الجداول المائية ومنابع العيون تحدثوا إلينا ببراءة: «المدارس بعيدة عن منازلنا ونحن نتعب يوميا من الذهاب والإياب» .

وفي سؤالنا عن العيش في دجبة أجابنا أحدهم بصراحة: لا أحب العيش هنا…لا نجد ما نفعله في العطلة سوى التجوال في غابات الزيتون او قطف التين ونحن نمضي الوقت هنا قرب هذه العين المخصصة لري الأشجار ننتظر دورنا للسباحة هنا لأن في دجبة لا يوجد أي فضاء ترفيهي و لو كان بسيطا”».

تركنا عيون دجبة وتركنا الصغار بعدما حاولنا المرار منعهم من السباحة في أحواض ماء خطرة العمق، ويئسنا من المحاولة. تركنا المكان وتوجهنا الى قمة الجبل حيث تراءت امامنا كامل منطقة دجبة بمناظرها الطبيعية الخلابة ومنازل أهلها الدافئة…تراءت لنا من بعيد مدينة تيبار وطرقاتها الملتوية…. تراءى لنا تاريخ منطقة لا أحد يعرف عن مستقبلها شيء.

دجبة ذلك المكان الساحر…تلك الرائحة الزكية…تلك النسمة العليلة تستحق الكلام عن جمالها و قبحها في آن واحد … عسى ان تحظى بلفتة كريمة من السلطات المعنية و أن تحظى خاصة بقيام اهاليها من سباتهم و تشميرهم على سواعد الجدّ … بدل التواكل على الحلول السهلة البائسة مثل إعانات الدولة أو مغادرة بلدتهم نحو جهات و مدن أكثر مرافق ….

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version