في سبتمبر 2020، حسم “موسى سيكا بالوكو” -زعيم إحدى الجماعات الإرهابية المتواجدة في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية- الجدلَ حول هوية تنظيم داعش في قلب إفريقيا. لقد أضحى فصيل بالوكو جزءًا من المشروع العالمي للدولة الإسلامية.
يقول زعيم داعش الإفريقي الجديد بكل وضوح: “لم يعد هناك شيء اسمه القوات الديمقراطية المتحالفة بعد الآن.. نحن ولاية، ولاية إفريقيا الوسطى وهي ولاية واحدة من بين الولايات العديدة التي تتكون منها الدولة الإسلامية”. وقد تم التوكيد على هذا التحول والتمدد الإرهابي في العمق الإفريقي بعد قيام وزارة الخارجية الأمريكية، في 10 مارس الماضي، بتصنيف فرع الدولة الإسلامية في جمهورية الكونغو الديمقراطية كمنظمة إرهابية أجنبية، كما تم تصنيف قائد المجموعة “موسى بالوكو” بشكل خاص باعتباره إرهابيًا عالميًا. ولعل ذلك يطرح العديد من التساؤلات حول طبيعة الجماعات الجهادية العنيفة في وسط إفريقيا، والجدل حول ارتباطاتها بالمشروع الجهادي المعولم، والسياق الذي ظهرت فيه، ودلالات ذلك بالنسبة لاستراتيجية الحرب على الإرهاب.
“دعشنة” النشاط الإرهابي:
من الواضح أن فصيل بالوكو في شرق الكونغو قد أصبح جزءًا من شبكة الإعانات المالية لتنظيم داعش في سنة 2016، وذلك قبل نحو ثلاث سنوات من الإعلان الرسمي عن تأسيس “ولاية إفريقيا الوسطى”. ففي أفريل 2019، أعلن داعش عن أول هجوم من نوعه في جمهورية الكونغو، وهو الهجوم الذي تم تنفيذه عبر “القوات الديمقراطية المتحالفة”. وفي جويلية من العام نفسه بث التنظيم شريط فيديو لزعيمه “موسى سيكا بالوكو” يعلن فيه مبايعة زعيم داعش -آنذاك- “أبو بكر البغدادي” الذي وصفه بخليفة المسلمين. عندئذ ازدادت أنشطة داعش الإرهابية في الكونغو، حيث بلغ عدد ضحاياه من المدنيين الذين فقدوا حياتهم في عام 2020 وحده نحو 849 مدنيًا. كما أنه تمكّن في أكتوبر 2020 من الهجوم على أحد السجون في جمهورية الكونغو مما أدى إلى هروب أكثر من 1300 سجين.
ويمكن تفسير الغموض الذي أحاط بحقيقة الاصطفاف الأيديولوجي والتنظيمي لفصيل “بالوكو” في الكونغو مع التنظيم العالمي لداعش بعوامل ثلاثة أساسية: سوء الفهم المستمر المتعلق بالاستراتيجية العالمية لتنظيم داعش ولا سيما الشعار الذي يردده دومًا بأنه باقٍ ويتمدد، وعدم الوصول إلى المصادر الأولية (ولا سيما الخطب والبيانات الصادرة عن تنظيم الدولة الإسلامية والقوات الديمقراطية المتحالفة، والمقابلات مع مقاتلي الحركة الإرهابية الحاليين والسابقين)، والمخاوف المبررة بشأن الآثار السياسية المترتبة على إعلان معقل جديد لداعش وسط إفريقيا. ومما يؤكد هذا المنحى في التفسير هو إعلان دولة الكونغو الديمقراطية انضمامها للتحالف الدولي لمحاربة داعش لتصبح العضو رقم 80.
السياق والتطور:
من المهم فهم السياق التاريخي والاستراتيجي لتطور القوات الديمقراطية المتحالفة منذ عام 2015، عندما بدأ التحول في فكرها الجهادي. إنه تاريخ معقد، حيث إن الجماعة، على الرغم من اسمها الذي يحمل صبغة ديمقراطية وعلاقاتها بالمجتمعات غير المسلمة والجماعات المسلحة، كان لديها دائمًا أجندا إسلامية متشددة معلن عنها، والتي أخذت منحى جهاديًا متطرفًا وعنيفًا بمرور الوقت. لقد أظهرت الجماعة التي نشأت على يد مجموعة من الضباط الأوغنديين المنشقين، عبر تاريخها، استعدادها لتشكيل تحالفات، والاستفادة من الدعم الخارجي لتعزيز أهدافها. وفي نهاية المطاف أصبح فصيل رئيسي من الجماعة بقيادة “موسى بالوكو” جزءًا من منظومة داعش العالمية.
ترتبط الجذور الحقيقية لنشأة داعش وسط إفريقيا إلى السياق الأوغندي أوائل تسعينيات القرن الماضي حينما قامت جماعة التبليغ بزعامة “جميل موكولو” بمحاولة الاستيلاء على مسجد كمبالا القديم. وعلى الرغم من أن هذه الجماعة لم تكن تتبنى فكرًا جهاديًا عنيفًا في ذلك الوقت فإنها كانت ذات ميول سلفية أصولية. على أن “موكولو” استطاع التحالف مع جناح مسلح يسمى “المسلمون الأوغنديون المقاتلون من أجل الحرية”. بيد أن هزيمة هذه الحركة على يد الجيش الوطني عام 1995 اضطرها إلى اللجوء إلى الكونغو. وقد استطاع “جميل موكولو” برعاية من نظام الإخوان المسلمين الحاكم في السودان -آنذاك- التحالفَ مع الجيش الوطني لتحرير أوغندة وإعادة تسمية الجماعة المسلحة لتصبح القوات الديمقراطية المتحالفة.
لقد ساعدت الطبيعة الجغرافية لمنطقة شرق الكونغو التي تموج بعشرات التنظيمات المسلحة العنيفة جماعة “موكولو” على إعادة البناء والتأسيس. وابتداء من عام 2003، فرضت قيادة القوات الديمقراطية المتحالفة تفسيرًا صارمًا للشريعة الإسلامية على سكان المخيمات واللاجئين، واستفادت من بناء شبكات وعلاقات مع المجتمعات المحلية. على أن زعيم الجماعة بدأ يتبنى نهجًا عنيفًا ربما للضغط على السكان المحليين وترويع قوات الأمن الحكومية. يقول في خطاب له عام 2014: “حتى عندما يروننا في القرى ونحن نمر، يجب عليهم إبلاغ القوات المسلحة الكونغولية بهذا الأمر. إذا رآك المدنيون، اقتل المشركين منهم كما يقاتلونك. اذبحهم وقطع رؤوسهم على الفور. لا تُعْطِهم فرصة ثانية. لا تتردد في قطع رؤوسهم”. على أن نقطة التحول الفارقة تمثلت في اعتقال “جميل موكولو” في تنزانيا عام 2015، وتولِّي “موسى بالوكو” قيادة القوات الديمقراطية. تحت قيادة “بالوكو” تبنى التنظيم المسلح عقيدة ومنهج تنظيم داعش، ولا سيما الإطار الفكري، لتبرير نشاطه الإرهابي وتأطيره من الناحية الأيديولوجية. اتضح ذلك في حملات التنظيم الدعائية ووسائط التواصل الاجتماعي منذ عام 2017. على سبيل المثال، بعد ساعات من اقتحام سجن كانغباي، في 20 أكتوبر 2020، وتحرير أكثر من ألف سجين بما في ذلك 236 من مقاتلي الجماعة، تبنى داعش الهجوم، وتم ربط الهجوم بعملية “تحطيم الجدران” العالمية من أجل تحرير السجناء المهمين من السجون. منذ أفريل 2019، أعلنت وحدات الإعلام التابعة لتنظيم داعش المركزي مسؤوليتها عن أكثر من 110 عمليات مسلحة في جمهورية الكونغو الديمقراطية.
الجناح الموزمبيقي:
إن توسّع داعش في إفريقيا مدفوع باستراتيجية العمل مع الجماعات المسلحة المحلية التي يمكن أن تتحول إلى أذرع رسمية إذا استوفت المعايير التي وضعتها القيادة المركزية من أجل الحصول على الاعتراف الرسمي. وإذا تم قبول هذه الأفرع المحلية، فإنها تصبح مقاطعات تابعة لداعش، تمامًا كما أصبح فصيل من بوكو حرام ولاية غرب إفريقيا. ومن اللافت أن تسمية تنظيم إفريقيا الوسطى مضللة لأن كلًا من موزمبيق وتنزانيا ليستا جزءًا من وسط إفريقيا. وتتألف ولاية إفريقيا الوسطى من جناحين متميزين؛ الأول هو القوات الديمقراطية المتحالفة بزعامة “موسى بالوكو” في الكونغو، والثاني هي جماعة أهل السنة والجماعة (أو الشباب) بزعامة التنزاني “أبو ياسر حسن”، وهي مجموعة من المقاتلين متمركزة في مقاطعة كابو ديلغادو شمالي موزمبيق.
وبعد وقت قصير من ظهوره الرسمي في جمهورية الكونغو الديمقراطية، أعلنت ولاية إفريقيا الوسطى في جوان 2019 عن وجود فرعها الثاني في كابو ديلغادو، وهي المقاطعة الوحيدة ذات الأغلبية المسلمة في موزمبيق، التي هي دولة يبلغ عدد سكانها المسلمين حوالي 18% من مجمل السكان. منذ ذلك التاريخ، واصلت الآلة الإعلامية لتنظيم داعش تبني الإعلان عن العديد من الهجمات التي نفذها الجناح الموزمبيقي. وعلى الرغم من عدم اعتراف الحكومة الموزمبيقية في روايتها الرسمية بالعنف الجهادي، حيث نَسَبَتْه إلى مجموعة من “المجرمين” العاطلين عن العمل، إلا أنها سرعان ما غيرت روايتها قائلة إن الجماعات الإرهابية تحاول التمدد والانتشار عبر أراضي موزمبيق….
(يتبع)
ـ عن مركز “المستقبل” للأبحاث و الدراسات المتقدمة ـ