رحم الله فنانتنا المحبوبة زهيرة سالم التي فارقتنا هذا الصباح و حملت معها صوتها الجميل المجلجل و ضحكتها الصافية و شخصيتها القوية … نعم … زهيرة كانت من أكثر من عرفتهم شموخا و عزة نفس و جرأة في الدفاع عن حقها و من الصعب ـ بل من المستحيل ـ أن تطالها إهانة أو خدش من كرامتها و لا ترد الصاع صاعين و أحيانا عشرين صاعا لو لزم الأمر … لذلك أحببناها و احترمناها و نتأسف اليوم شديد الأسف على رحيلها الذي أغلق دائرة الثلاثي الذهبي لأغنيتنا في زمن من الأزمان، و الذي كانت تتنافس فيه مع قامتين أخريين في حكم الاستثناء: نعمة و عليّا … قبل أن تلتحق بمعركة المجد الغنائي الفارسة القيروانية السيدة سلاف أطال الله عمرها …
نبكي زهيرة اليوم كما نبكي كرامتنا التي صارت في التراب مع أناس آخرين و مجالات غير مجال الفن و معاركه الضروس … رحلت زهيرة اللبؤة الطيبة القلب، و بقي لنا بغاث القوم ممن يبلعون الضربة و القرصة و الشتيمة كما تهضم أنت حبة الأسبيرين و ربما كعبة البقلاوة و كعكة الورقة في عرس رديء من أعراسنا القليلة الذوق … إلى درجة أننا صرنا نضع أيدينا على قلوبنا كلما قيل لنا هناك تونسي اليوم يناقش على إحدى الفضائيات غير التونسية موضوعا ما، أو يتواجه مع الآخر ـ أيّ آخر ـ في ملعب أو محفل أو مشهد من المشاهد العامة التي ترمقها آلاف العيون …
منظران اثنان لفتا انتباهي شخصيا خلال الأيام الأخيرة و تركاني أتصبب عرقا و حرجا و حنقا و وجيعة … الأوّل حين دعا برنامج “الاتجاه المعاكس” على قناة الجزيرة ضيفين تونسيين للحديث عن تونس و ربيعها الأعرابي المنفلت … أحدهما سلّكها بما يقدر عليه و هو معروف عندنا بالدعابة و بقي في تلك المنزلة مضحكا معه و مضحكا عليه … أما الثاني فكان معروفا بأنه من كواسر مجلس نوابنا و جوارحه من حيث قدرته الفائقة على السبّ و التهديد … و أيضا من جهة ركل القوانين مستقويا على والدينا بلا أدري ماذا و يلاحقه حكم قضائي ها هو يسخر منه طول النهار و يتحدى رجال العدالة و زملاءه النواب و أهل الصحافة و شغّالي البلاد و يشتمهم جهارا و يعطف عليهم رئيس الدولة و كأننا لسنا في دولة بل في “قنّارو” دجاج …
و بصدق و بما أننا وطنيون أكثر من اللزوم، فقد قلنا ليلتها ها أن شرّنا سينزل وبالا على ذلك الدعيّ فيصل القاسم و ها أن دوره جاء ليشرب من الكأس التي تعوّدناها و ها أنه سيجد من يقص له أظافره الطويلة و لحيته المهملة … غير أن ما حصل أصابنا بالخيبة و جرّعنا مرّ الهزيمة منذ الجولة الأولى … إذ تحوّل ممثلنا الغضنفر، إلى حمل وديع و جحش قميء ركب عليه مقدم البرنامج و كال له من اللمزات المهينة ما كال، و شحطه بعصاه على هذا الجنب و ذاك الجنب، بل يمكن أن نقول دون مداورة بأنه مسح به القاعة مسحا … و في المقابل كان نائبنا المغوار بشوشا مؤدبا ذليلا كأنه في حضرة دائن أو صاحب محلّ يطالب كاريا فقيرا بمعلوم إيجار يوم 10 في الشهر …
بعدها بيوم رأيت مشهدا شبيها و لكن في ملعب آخر هو ملعب الكرة هذه المرة … فقد كانت هناك على الأراضي المصرية مباراة بين ناد تونسي و منافسه الليبي … و رغم أن اللعبة رياضية من أولها إلى آخرها، فقد كان الليبيون على ضراوة و عتوّ يقاربان العنف الشديد … في كل مواجهة ثنائية، و كل اعتراض لمهاجم، و كل نزاع على كرة، كانت الأرجل الليبية تعصف بأقدام لاعبينا التونسيين عصفا … و كان الضرب يتم بالرجلين، بالمرفقين، بالدماغ الصلبة، بالركبة و القبضة و الكفّ العنيفة … لا يهمّني هنا التحكيم فله أصحابه … و لكن صدمتني سلبية لاعبينا التونسيين و صعقني ابتسامهم الدائم في وجه المعتدين، بل لم يجدوا الشهامة حتى لإخراج الكرة عند سقوط أحد زملائهم بلا حراك بعد أن تلقّى لطمة قاتلة و مكشوفة من مدافع ليبي و واصلوا اللعب و كأن شيئا لم يكن … و قفلة الموقف جاءت بعد انتهاء المباراة، حين ذهب لاعبنا الضحية لمصافحة لاعبي النادي الليبي واحدا واحدا، و كأنه يعتذر لهم عن شيء لا أعرفه ǃ
و كم تعددت مظاهر بؤس كالتي رأينا … منها تلك السماحة الغريبة التي بدت على الصافي سعيد ذات بلاتوه تلفزي و هو يأكل على رأسه من ضيف سوري ريّشه ترييشا … فلم يجد من نائبنا و كاتبنا تلك النعرة التي كانت تركبه لأقلّ كلمة تأتيه من أي صحفي أو شخص تونسي و التي وصلت به مرة إلى دفع جوهر بن مبارك بيده حتى كاد يسقطه أرضا في برنامج تلفزي آخر … بالعكس، فقد دعا الصافي محاوره السوري الغضوب إلى ضيافة في بيته، فما كان من الآخر إلا أن أجابه لا يشرفني ذلك … فبلعها أخونا التونسي مبتسما مستسلما، مع العلم بأن كل هذا جرى في تونس و على هواء قناة تونسية …
و منها، و منها، و منها … منها أيضا ما حصل لساسة كنا نخالهم كبارا عندنا فإذا بهم يتحوّلون إلى أنعام و فلالس عندما يجالسون أحمد منصور و شاهده على العصر … في المعتاد كان منصور يعاني الأمرّين و هو يحادث قامات من فئة رجل الدولة المصري حسين الشافعي الذي كان يجلده بعينيه الحادتين و صوت مثل الرعد … و عندما جاء الدور على عتاة وزارة داخليتنا (بالخوجة، بنور، مزالي، قائد السبسي …) الذين كانوا يرعبوننا هنا، رأيناهم يرتجفون ارتجافا أمام المذيع و قناته القطرية، و يتلجلجون في الكلام و يطنبون في إحناء الرأس مكررين ألف مرة عبارة “يا سيّدي” …
و لا أنسى ما حييت موقفا عبث أحمد منصور خلاله بوزيرنا الرهيب “الطاهر بوب” بمناسبة تلك القولة عن الرجولة التي تحضر أو تغيب … و قد غابت عنه في ذلك اليوم و غابت عنا إلى الأبد بعد ذلك …