بنات أفكار

دور الناقد التونسي أحمد حاذق العرف، في ما عُرِفَ بـ”حركة الطليعة” (1968- 1972)

نشرت

في

محمد صالح بن عمر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تصدير من الصحفي والأديب عامر بوعزة:

كي تعرف جيدا (أحمد حاذق العرف) وتدرك مكانته الرفيعة في الساحة الثقافية التونسية، ينبغي أن يكون لديك بعض إلمام بالحركة الأدبية والمسرحية في تونس نهاية الستينات وطيلة فترة السبعينات، أن تعرف الطليعة، ومجلة الفكر، وغير العمودي والحر، والانسان الصفر، وتكتشف بمفردك من خلال مجلات تلك المرحلة ومناظراتها، كيف كان (الناقد) عنصرا أساسيا في هذا المشهد..

منذ أيام، وأنا أحاول الكتابة عن أحمد حاذق العرف، اكتشفت نصا يمكن اعتباره مرجعا أساسيا لفهم تجربة الرجل في مجال النقد الأدبي والمسرحي ودوره في حركة الطليعة الأدبية.

النص لمحمد صالح بن عمر الذي ارتبط اسمه باسم أحمد حاذق العرف وشكّلا معا ثنائيا نقديا انتصر لقيم الحداثة التي بشّر بها حبيب الزنّاد وسمير العيادي وغيرهما من كتّاب الطليعة…

نص يقرأ كما هو…فليس أفضل منه لجعلنا نسافر عبر الزمن إلى مرحلة هي من أخصب مراحل التطور الثقافي في بلادنا خلال النصف الثاني من القرن العشرين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أقرّر منذ البدء ودون تردّد اعتمادا على معرفتي الدّقيقة لمسيرة الناقد التونسي أحمد حاذق العرف التي انطلقت في نهاية ستينات القرن العشرين أنه دون أيّة مجاملة ، من أفضل من أنجبت البلاد التونسيّة من نقّاد تخصّصوا في الأدب التونسي، إلى جانب الثّالوث اللاّمع :محمّد الحليوي ( 1907 -1978 )ومحمّد صالح الجابري (1940 – 2009) وأبي زيّان السّعدي (1937 – 2014 ) .

ففي نهاية الستينات وبداية السبعينات، كان العرف الناقد الوحيد الذي وقف إلى جانبي في مواجهة الهجومات التي كان يشنّها العشرات من خصوم ما عرف بـ” الطليعة” وفي الدّفاع عن مقولاتها الثّلاث: التجريب في السرد، وإمكان كتابة الشعر خارج أوزان الخليل، واستخدام المناهج الحديثة في النقد. وهذه الأفكار التي رُفضت إذ ذاك قد تحقّقت لها بعد قرابة العقدين الغلبة في البلاد التونسية بداية من التسعينات.

وعلى الرّغم من أنّ أحمد حاذق العرف لم يكمل دراسته الجامعيّة فقد تميّز بسرعة بديهته وقدراته المذهلة على الفهم وسداد تحاليله واطّلاعه المعمّق على مدوّنة الأدب التونسي .

تغطّي الشهادة التي سأقدّمها في هذه المداخلة سنة ونصف شهر تقريبا، تمتدّ من بداية شهر أكتوبر 1971 إلى منتصف شهر نوفمبر من سنة 1972. والتّاريخ الثاني هو تاريخ مغادرتي العاصمة نحو جزيرة قرقنة حيث عيّنت للتدريس لأوّل مرّة .وهذه الفترة هي التي عرفت فيها أحمد حاذق العرف عن قرب وترافقنا في دوريّتين هما جريدة “المسيرة” ثمّ جريدة ”الناس”. وقد التقينا بعد ذلك في بعض المناسبات عندما كنت أعود في العطل إلى العاصمة لكنّنا لم نقم بأيّ عمل مشترك ، إذ انسحبت عمليّا من الساحة الثقافيّة حضورا ونشرا حتى سنة 1974.

لقد بدأ أحمد حاذق العرف ينشر مقالاته النقديّة سنة 1969 إلاّ أنّه لم يلفت انتباهي بوجه خاص إلاّ سنة 1971 حين نشر بمجلّة “الفكر” ردّا على مقال لـ”علي دب” نشر في عدد سابق من تلك المجلة وتهجّم فيه على اللون الشعري الذي استحدثته وسمّته ”غير العمودي والحرّ”. وكان علي دب إذّاك عائدا لتوّه من العراق حيث زاول دراسته الجامعيّة فوجد في تونس لونا من الشعر لم ير مثله في المشرق العربي فاستهجنه وعدّه خارجا عن فنّ الشعر.

وكنت في ذلك الوقت أشرف بالاشتراك مع حسين الواد وحمّادي التهامي الكار على الصفحة الأدبية لجريدة”الأيام”* – وكنّا قد سمّيناها ”تجاوزات” – واقتصرنا فيها على نشر الشعر غير الموزون والقصص التجريبية والنقد المتوسّل بالمناهج الحديثة التي كانت في ذلك الوقت ثلاثة هي الشكلانية والبنيوية والنصّانية. فورد ذات يوم على الصفحة مقال من أحمد حاذق العرف يتناول فيه “غير العمودي والحر” وقد عنونه بـ”كلمات على جدران أفريكا”. فتسلّمه رئيس التحرير عمر فضة الذي كان صاحب السلطة شبه المطلقة في الجريدة (بحكم أنّ صاحبها المرحوم محمود الزغني كان صحفيّا قارّا بجريدة ”العمل” لسان الحزب الحاكم ويحجّر عليه القانون الجمع بين عمله فيها ووظيفة أخرى. لذلك لم يكن يأتي إلى مقرّ الجريدة إلاّ في مناسبات متباعدة واتّصالنا به كان في أكثر الأحيان بالهاتف أو خارج مقرّ الجريدة).

ولعمر فضّة هذا تاريخ معروف بالبلاد في الحقلين السياسي والصحفي قبل الاستقلال وبعده. فقد كان يوسفيّا و رأس تحرير جريدة ”البيان” للزعيم صالح بن يوسف ثمّ جريدة “البيان الجديد” التي حلّت محلّ الأولى بعد توقيفها من السلطات الفرنسيّة. لذلك كان حاقدا على بورقيبة وكلّ الذين معه ومنهم محمد مزالي مدير مجلّة “الفكر” وبشير بن سلامة رئيس تحريرها.

وكان عمر فضّة قد عارض بشدّة منذ البداية في وجود صفحة ثقافيّة بالجريدة . وحين فرضها عليه صاحبها، ظلّ لا ينفكّ عن انتقاد محتواها والسخرية من اسمها، محرّفا إيّاه على سبيل التّهكّم إلى “التّجا..وِزَّاتْ”. فحين اطّلع على مقال أحمد حاذق العرف ووجده ينوّه بكتابات بشير بن سلامة الذي كان الراعي الأوّل لتجربة “غير العمودي والحر” امتنع عن نشره. لكنّنا تصدّينا له ورفعنا الأمر إلى صاحب الصحيفة فأجبره على نشره .غير أن عمر فضة انتهز فرصة تحكّمه في دواليب الجريدة لغياب صاحبها عنها، فنشر المقال لكن بعد أن أتبعه بتعليق وصف فيه أحمد حاذق العرف بـ”الوصولي”. فكانت تلك الحادثة سببا في عدم انضمام العرف إلى مجموعتنا وظلّت علاقته بنا يشوبها شيء من التوتّر.

وللإشارة قد شكّلت صفحة “تجاوزات”، على الرغم من قصر الفترة التي ظهرت فيها ، مرحلة جديدة. فبعد أن كنت شخصيّا قبل ذلك الوقت أنادي بإنشاء أدب تونسي لا شرقيّ ولا غربيّ، أدّى النقاش بيني وبين رفيقيّ حسين الواد وحمّادي التهامي الكار، إلى إدخال تعديل على ذلك الاتجاه لتصبح الدعوة إلى إنشاء أدب عربي جديد لكن غير مستورد من الغرب، معتبرين الرواية و”النوفيل” وقصيدة النثر أجناسا دخيلة على الأدب العربي .وهو ما يستدعي التخلّي عن الكتابة فيها، وإنشاء أجناس سرديّة وشعريّة عربية إمّا بابتكارها وإمّا بتطوير الأجناس التراثية أو باستنباطها من الواقع المعيش. ويكون ذلك طبعا يخوض مغامرة “التّجريب”. وهذه النقطة قد أبقتنا مرتبطين ارتباطا وثيقا بحركة “الأدب التّجريبيّ” التي أنشأها عز الدين المدني ونظّر لها في كتابه “في الأدب التجريبي”(5)، إلاّ أنّ تخلّينا عن فكرة “التونَسَة” قد أبعدنا عنه وعن مجلّة “الفكر” بعض الشيء. لذلك قد يكون من المفيد جمع النّصوص التي نشرت في صفحة “تجاوزات” وإصدارها في كتاب يكون شاهدا على هذا التّطوّر الحاصل في اتّجاهنا، لكن في حدود حلقتنا تلك فحسب.

هذه المقدّمة ضرورية لفهم إسهام أحمد حاذق العرف في حركتنا التي شاعت تسميتها منذ سنة 1970 بـ”الطّليعة”- وهي تسمية تحتاج إلى مقالة مستقلّة لما تنطوي عليه من أبعاد لا يتّسع المجال للخوض فيها هنا .

لقد توقّفت صفحة “تجاوزات” بتوقّف جريدة “الأيّام” في 21 جوان 1971. وكان ذلك بقرار من وكيل الجمهورية التونسية لأسباب بيّنتها في مذكّراتي التي سأنشرها لاحقا. وقد تزامن توقّفها مع بداية العطلة الصيفيّة التي قضّيتها بفرنسا بين مدينتي غرينوبل وباريس. وحين عدت إلى تونس في شهر سبتمبر اتّصل بي السيد سالم كرير المرزوقي صاحب صحيفة “المسيرة “، عارضا عليّ الإشراف على الصفحة الثقافيّة لجريدته ، إثر خلاف جدّ بينه وبين المشرف عليها، الشاعر محمد مصمولي . فتردّدت في بادئ الأمر لأنّه كانت لي تجربة سيّئة مع تلك الجريدة في سنة 1970 حين أحدثت فيها ركنا أسبوعيّا بطلب من رئيس تحريرها إذّاك الصّديق محمّد الطيّب قيقة لكنّ صاحبها أقاله بعد بضعة أسابيع من شروعي في تحرير ذلك الرّكن. وبإقالته حجب الرّكن نهائيّا ، كما تخلّى عن كلّ الصحفيين والكتّاب المحسوبين عليه، ثمّ لأنّ جريدة ”المسيرة” كادت تتخصّص في مهاجمتنا حين كنّا نشرف على الصفحة الثّقافيّة لجريدة ”الأيّام”.

لكن حين أعلمت حسين الواد وحمّادي التهامي الكار بذلك العرض حثّاني على قبوله حتى نتمكن من مواصلة العمل الذي شرعنا فيه بصفحة ”تجاوزات” عازيين موقف المسيرة السابق منّا إلى شخص المشرف على صفحتها الأدبيّة لا إلى صاحب الجريدة . فأعلمت سالم كرير المرزوقي عندئذ بموافقتي واقترحت عليه فكرة الإشراف الجماعي على الصفحة الأدبية لجريدته مع رفيقيّ المذكورين فوافق على ذلك.

ولكي لا ندخل اضطرابا على اتجاهنا في هذه الصّفحة الجديدة اخترنا أن نسمّيها “بنائيّات” (في صيغة الجمع على غرار ” تجاوزات” ).

لكنّ حسين الواد وحمادي التّهامي الكار سرعان ما انسحبا ، إذ سجّل الأوّل في شهادة الكفاءة في البحث وقرّر الآخر التّفرّغ لدراسته ، لأنّه كان طالبا في السنة النهائية بدار المعلمين العليا التي لا تسمح قوانينها لطلبتها بالرّسوب.

ولمّا كنت دائما أنفر من العمل الفردي التجأت إلى أحمد حاذق العرف – وكان طالبا بمركز الفنّ المسرحيّ – ليحل محلّهما.

وبذلك انطلقت مرحلة جديدة ستكون بالغة الأهمّية من حيث مراجعة بعض الأسس النظريّة التي قام عليها اتّجاهنا. وأوّل هذه الأسس توجّهنا الشكلاني الخالص الذي كنّا نبرّره بأنّ غرضنا حضاري لا آني . وهو إحداث أشكال شعريّة وسرديّة عربيّة مختلفة عن الأشكال الوافدة من الغرب . وهو الغرض الذي أعلنت عنه سنة 1970 في مقالي المنشور بمجلة “الفكر” بعنوان “لماذا الأدب الطّلائعيّ التّونسيّ ؟ “ والذي استمرّ التمسّك به في مرحلة ”تجاوزات”. لكنّ النقاش المطوّل وشبه اليومي الذي كان يجري بيني وبين أحمد حاذق العرف في شأن هذه القضيّة بمقهى “برازيليا” الذي اتّخذناه مقرّا لنا والذي كان يوجد داخل مبنى “البالماريوم” قد أفضى إلى التّراجع عن مبدإ إهمال المضمون و الاقتصار على العناية بالشّكل. وذلك على اعتبار أنّ الأشكال الفنية مهما بلغت من التّطوّر فهي غير قادرة وحدها على شدّ اهتمام القارئ ،خاصة في بلد يواجه قضايا حضارية وسياسية واجتماعية معقّدة ولأنّ فصل الأدب عن الواقع المعيش يعني عمليّا فصله عن الحياة .

والذي زاد في تمسّكنا بهذه الفكرة هو ما كنّا نراه من أنّ التجريب في القصة والشعر قد تحوّل عند الكثيرين من الكتّاب والشعراء الجدد إلى تقليعة قوامها التّلاعب بالألفاظ والكسر المتعمّد للقواعد دون الاستناد إلى بديل فنّي صلب متماسك. وهو ما تسبّب في ظهور تيّار بأكمله ينسب نفسه إلى “الطّليعة” لكنّ سمته الغالبة هي التساهل في الكتابة والتصنّع في إنشاء النّصوص . فكان لا بدّ عندئذ من تعديل الكفة وتصحيح المسار.

ولكنّنا مع ما قرّرناه من ضرورة “إضافة المضمون الثوري إلى الشكل الثوريّ” رأينا أنّ الكاتب ينبغي أن يكون مستقلاّ و ألاّ يتحوّل إلى بوق دعاية لحزب أو نِحلة أو اتجاه إيديولوجي بل إنّ رجل السياسة المستنير هو الذي يتتلمذ على الكتّاب ويتلقّى دروسه منهم لا الذي يحوّلهم إلى بيادق ويسخّرهم في خدمة مذهبه. وهو الموقف الذي بقيت متمسّكا به وفيّا له إلى اليوم .

وهناك مراجعة أخرى قمت بها في الفترة نفسها مع أحمد حاذق العرف تهمّ موقفنا من الأجناس الأدبيّة. فقد اتّفقنا على أنّ الكاتب حرّ إمّا في الالتزام بشروط جنس من الأجناس المتداولة (شعر – قصّة – رواية – مسرح ) فيكون عندئذ شاعرا أو قصّاصا أو روائيّا أو كاتبا مسرحيّا، وإمّا في المزج بينها داخل نصّ واحد بهدم الحواجز القائمة بينها. وقد سمّينا هذا النّوع “كتابة”. وللتّاريخ كان قد مارس هذا اللّون من الأدب قبل ذلك ببضع سنوات لكن دون التّنظير له، محمود التونسي وسمير العيادي في عدّة نصوص نشراها في مجلاّت “الفكر” و”قصص” و”ثقافة”.

ومن الإضافات التنظيرية الأخرى التي تمخّضت عنها مناقشاتي مع أحمد حاذق العرف، الانفتاح على التجارب والمحاولات الحداثيّة في الأدب التونسي التي كنا ننظر إليها على أنّها خارجة عن “الطّليعة”، مثل الشّعر القائم على المزج بين الفصحى والدّارجة الذي كان يكتبه صالح القرمادي، و”القصيدة المضادّة” التي ينظّر لها ويكتبها محمّد مصمولي، والشعر الميلودارمي الذي اشترك في كتابته منصف الوهايبي وعمّار منصور على الرغم من خضوعه لأوزان الخليل.

لكن صفحة “بنائيات” سرعان ما خرجت من بين أيدينا. فبدلا من أن يتّخذ صاحب جريدة “المسيرة” قرارا بطردنا منها أخذ يمتنع عن نشر مقالاتنا والنصوص التي نختارها ونسلّمه إيّاها للنّشر ، مفاجئا إيّانا في كلّ عدد بنصوص هزيلة لكتّاب وشعراء نكرات تتضارب شكلا ومحتوى مع ما كنّا ننظّر له وندعو إليه. وهو ما جعلنا نعلمه بانسحابنا من الجريدة ونطالبه بتغيير اسم الصفحة التي نشرف عليها . لكنّه لم يستجب لطلبنا واحتفظ بالاسم “بنائيّات “مع مواصلة النشر فيها لمن يشاء من هواة الأدب الذين يراسلون الجريدة . وأكثر ما نشره هزيل وضعيف المستوى . لذلك لا بدّ لي أن أسجّل هنا أنّ آخر عدد من صفحة “بنائيات” أشرفت عليه مع أحمد حاذق العرف صدر بتاريخ 27 ديسمبر 1971 وأن ما صدر باسم ”بنائيات” بعده لا يمثّلنا.

وفي سنة 1981 بعد توقف جريدة ”المسيرة” بثماني سنوات لقيت السّيد سالم كرير المرزوقي بمدينة توزر بمناسبة التئام مهرجان أبي القاسم الشابي الأوّل الذي شاركت فيه بصفة محاضر، فاعتذر لي عن تصرّفه معي ومع العرف ، معلّلا ذلك بأنّه دعي إذّاك إلى وزارة الدّاخلية حيث طلب منه طردنا من الجريدة فلم يجد الشجاعة لإعلامنا بذلك.

لكن ماذا كانت أسباب ذلك الطلب؟ وما هي التهم التي كانت موجهة إلينا ؟ وإذا كانت لنا صلة ببعض الأحزاب الممنوعة فلماذا لم يُلق علينا القبض أو حتى نستنطق؟ كلّ هذا بقي لغزا.

وبعد خروجنا من جريدة”المسيرة” بقينا ننشط في نادي الخميس بدار الثقافة ابن خلدون الذي كان يشرف عليه سمير العيادي وننشر بمجلّة “ثقافة “ التي كان يرأس تحريرها وتصدر عن تلك الدّار.

وفي آخر شهر ماي من سنة 1972 اتصل بي الصحفي محمد الطيب قيقة الذي تعاملت معه ، كما سبق أن ذكرت، بجريدة”المسيرة” لبضعة أسابيع حين رأس تحريرها سنة 1970 وغادرناها معا حين أقيل منها . وقد عرض عليّ هذه المرّة أن أنضمّ إلى أسرة تحرير جريدة جديدة اسمها “النّاس” سيتولّى رئاسة تحريرها أيضا. ودعاني إلى حضور أوّل اجتماع ستعقده . فوافقت وحضرت ذلك الاجتماع. لكن المنطق الذي تكلّم به صاحب الجريدة وهو عدل إشهاد متقاعد يدعى الطيّب بن محمود، لم يعجبني. فقد صرّح بأنّ الثقافة الراقية لا مكان لها في جريدته لأنّها (أي الجريدة)، على حدّ قوله، موجّهة إلى عامّة الناس مثلما يدلّ عليه الاسم الذي اختاره لها. ولكي تصل إلى أكثر عدد ممكن من القرّاء ينبغي أن ترتبط بشواغلهم ، مقترحا لهذا الغرض الإكثار من المقالات التي تتحدّث عن الجرائم ومن المحاورات المطوّلة مع نجوم الطرب وكرة القدم، و مبديا رفضه القاطع لإحداث صفحة ثقافيّة. ثمّ التفت إليّ قائلا : طبيعة جريدة”النّاس” لا تتلاءم مع وجود صفحة ثقافيّة فيها لكنّك تستطيع أن تفيدنا كثيرا لو كتبت سلسلة من المقالات تهاجم فيها الكتّاب والشّعراء المعروفين حتّى يردّوا عليك ونحدث بذلك ضجّات متتالية من شأنها أن تلفت انتباه المثقّفين فيقبلوا على اقتناء الجريدة . فلم أردّ عليه لكنّي قرّرت بيني وبين نفسي قطع علاقتي بتلك الجريدة قبل ظهورها، إلاّ أنّ محمد الطيب قيقة عرض عليّ بعد انتهاء الاجتماع أن نشرب قهوة . فجلسنا بمقهى “المغرب العربي”وألحّ عليّ في البقاء ، عارضا أن أكتب في أيّ موضوع ثقافي أختاره ومؤكّدا لي أن كلّ صفحات الجريدة يمكن أن نسرّب فيها مقالا أو اثنين عن الثّقافة . فوافقت.

وأعلمت أحمد حاذق العرف بما حصل فوافق على الإسهام معي في النشر بهذه الجريدة . ولمّا كانت الجريدة “شعبيّة” بالمفهوم السلبي طبقا للغرض الذي حدّده مديرها، رأيت أن أعمل على ترقيتها بتوظيف المنطق نفسه الذي تكّلم به . وذلك بإحداث ركن فيها أحرّره باللهجة الدارجة التونسية لكنّي أخصّصه لمعالجة القضايا الثقافيّة لا القضايا التافهة . وسمّيت ذلك الركن ”بدون بروتوكول”، علّي أوصل بعض شواغلنا الفكريّة إلى فئة ولو قليلة العدد من القرّاء المقبلين على مطالعة المقالات التجارية.

ولقد أحدث ذلك الرّكن ردود فعل مختلفة في الساحة الثقافيّة. فالمثقّفون القوميّون العرب اتّهموا “الطّليعة” عامّة لا شخصي فقط بالإقليميّة الضيّقة وخدمة الاستعمار الذي يسعى إلى عزل تونس عن الوطن العربي ، في حين رحّب به دعاة الدارجة ومنهم خاصّة الهادي البالغ الذي رأى فيه فاتحة خير وبشرى بفتح ثقافي مبين .

والحقيقة أنّ المسألة لم يكن لها أيّ بُعد من ذينك البعدين . فقد قلّبتها أنا وأحمد حاذق العرف من جميع جوانبها وخرجنا بجملة من المبادئ العامّة تخصّ استعمال الدّارجة في الأدب.

ففي ما يتعلّق بالإقليميّة ، فقد فات أصحاب تلك التهمة أنّ الواقع اللّغوي بشبه الجزيرة العربيّة في العصر الجاهلي وحتّى نهاية القرن الرّابع الهجري كان يتّسم بالتعدّد اللّهجي. إذ أحصى النّحاة واللغويّون العرب القدامى أكثر من مائة وخمسين لهجة منها قرابة الخمسين لهجة وردت في القرآن الكريم وحده. وقد كان كلّ عربيّ مزدوج اللّسان: يتكلّم لهجة قبيلته مع أهله وأبناء عشيرته واللغة العربيّة الفصحى في التخاطب مع القبائل الأخرى. ومن أشهر الأدلّة على ذلك أنّ أبا عمرو الشيباني (تـ. 93 هـ) جمع في القرن الثاني الهجري ضمن كتابه الموسوم بالـ”جيم” عددا كثيرا من الشواهد الشعريّة نظمت بتلك اللّهجات . وقد تواصلت تلك الظاهرة حتّى العصر الحديث حيث يزدهر في كلّ أقطار الخليج العربي اليوم ما يعرف بـ”الشعر النبطيّ” وهو شعر يكتب باللهجات المحلّية وقد صدرت منه دواوين كثيرة . لذلك لا يوجد البتّة أيّ عداء أو تنافر بين الفصحى ولهجاتها بل هي في تكامل وتناغم تامّين معها.

يضاف إلى ذلك أنّنا لم نكتب في جريدة ”المسيرة” بالدّارجة فقط بل كنّا نكتب أساسا بالفصحى .وفي هذا دليل على أنّه لم تكن لدينا نيّة استبدال الفصحى بالعامية .

هذه هي مجمل المبادئ والأفكار التي تمخّضت عنها مناقشاتي مع أحمد حاذق العرف في الفترة التي رافقني فيها. وقد امتدت كما ذكرت على قرابة الثلاثة عشر شهرا ونصف. وهي الفترة الأخيرة من حياة ما سمّي بـ”الطّليعة”، إذ تفرّق بعدها الذين نسبوا أو انتسبوا إليها.

لكنّ ما رويته في ما سبق عن علاقتي بالعرف يثير تساؤلا خطيرا لا بدّ من إثارته اليوم خدمة للحقيقة التاريخيّة. فما علاقة هذا المجهود الفكري الثنائي الذي بذلناه معا بمن عرفوا بـ”أعضاء” حركة الطّليعة؟ فأنا والعرف ناقدان لا شاعران ولا كاتبان سرديّان ولم يشاركنا أحد في المناقشات التي دارت بيننا. ويعني ذلك أنّ ما خضنا فيه واتّفقنا عليه ما كانا ليلزم أولئك “الأعضاء” لأنّنا لم نشركهم فيه ولم نعرضه عليهم لنطلب آراءهم فيه.

وما أقوله عن هذه المرحلة ينسحب على المرحلتين السّابقين. فأنا ترافقت في سنة 1970 مع المرحوم الهادي بوحوش الذي كتبت بالاشتراك معه دراسة في ثلاث حلقات عن “غير العموديّ والحرّ” وكان بوحوش أيضا ناقدا لا غير، ثمّ في سنة 1971 مع حسين الواد بصفته ناقدا لا قصّاصا لأنه لم يكن يمارس في قصصه التّجريب. فما علاقة ما ينظّر له نقّاد بحركة سرديّة وشعريّة لم يشاركا في تأسيسها؟ وبأيّ حقّ يتكلّمون باسمها؟ وأنهي بسؤال أخطر : من أدخل محمد صالح بن عمر وحسين الواد وأحمد حاذق العرف الى ما سمّي بـ”حركة الطّليعة”، إذ الحركة مصطلح أدبيّ دقيق الدلالة معناه تجمّع كتّاب أو فنّانين حول قائد مؤسّس للدعوة إلى أفكار معيّنة . ولم يعرف في تاريخ الأدب العالمي ناقدا قاد حركة سردية أو شعرية .

إنّ الأدب التّجريبي الذي أسّسه عز الدين المدني في بداية الستينات (لا في سنة 1968 كما شاع خطأ) كان حركة تامّة الشّروط . لكن من هم الذين كانوا ينتمون إلى حركته تلك؟

في سنة 2009 دعوت عز الدين المدني إلى لقاء مع طلبة التبريز بدار المعلّمين العليا. وبتلك المناسبة قدّمت إحدى الطالبات محاولة في تحليل قصته ”حكاية الباب”. وفي أثناء النقاش وجّه إليه الطلبة عدّة أسئلة منها سؤال عن الأدباء الذين كانوا معه في حركة الأدب التجريبي. فأجاب بأنّهم كانوا ثلاثة: محمد الحبيب الزنّاد ومحمود التّونسي وسمير العيّادي.

لكنّ الآخرين الذين عرفوا بأنّهم من حركة الطّليعة ومنهم أنا وأحمد حاذق العرف، كيف دخلوا الحركة ؟ وهل يكفي أن يكتب ناقد عن حركة حتّى يعدّ عضوا فيها؟

القضيّة شائكة جدا تحتاج إلى الكثير من المراجعة وتعميق النّظر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*”الأيام” هذه، غير أسبوعية “الأيام” التي نشأت واشتهرت في الثمانينات.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version