أحيانا أتساءل … أحيانا؟ قل كل يوم أتساءل عن معنى الدولة في رؤوسنا الصغيرة، و ماذا يقصد مواطنونا بالداخل إذا قالوا هذه الكلمة أو إذا سقطت في آذانهم حروفها … هل تختلف عندهم في مغزاها عن مغزى “المنطق” في ذهن سعيد صالح عندما سألته أستاذة مدرسة المشاغبين …
انظر … ها هي الآن أربع و ستون سنة و الإذاعة تردد على مسامعنا هذه المفردة، و عاضدتها التلفزة بعد ذلك و ما تيسّر من صحف و منشورات و وثائق رسمية و في الأعياد لافتات قماش محاطة بشريط غسيل من أعلام البلاد الحمراء … زد على ذلك عشرات السنوات الدراسية التي تختتم بامتحان باكالوريا موضوعه الأوّل عن الدولة تعريفا و أهدافا و مكونات أشبه ما تكون بمكونات دواء القرحة أو وجيعة الرأس … و في الأثناء خطباء يصعدون و ينزلون، و أساتذة حقوق يتصدرون في البلاتوهات و يتولّون ما يشبه الإفتاء المدني … و قد تصادف فتوى (دستورية) لأحدهم هوى في نفس من يحكمون، فإذا به يجد نفسه في أعلى منصب أو في أرقى سفارة … إذن ما الدولة يا أنجب النجباء؟
ـ الدولة هي الحاكم
ـ فما الحاكم؟
ـ سيارة الشرطة …
تلميذ آخر قد يجيبك بأن الدولة هي الرئيس ، و آخر يراها في جارهم الذي يملك نصف مساكن الحي، و ثالث يصف بها ناديه الرياضي المفضل، و رابع قد يوصلك حتى إلى اسم جدّته بضمّة فوق الدال …
باختصار، نحن أناس جاءنا هذا المصطلح الثقيل بالصدفة أو بالتبنّي أو بالاستعارة … تسلّفناه من دول حقيقية مثل كراسي العرس، و عندما انفضّ المدعوون و قبل أن يطلع نهار الغد أعدنا الأمانة إلى أصحابها … و تلك هي حالنا اليوم …
منذ أيام قام لغط حول إيقاف مدير قناة نسمة و رئيس حزب قلب تونس و رئيس جمعية خليل تونس و طائفة أخرى من الألقاب التي يحملها السيد على صدره كنياشين جنرال مكسيكي … الموالون له يقولون إن هذا قرار سياسي و لا علاقة له بالقانون، و خصومه يقولون القضاء مستقلّ دعوه يعمل و عبارة أخرى سمعتها في مسلسلات أشقائنا المصريين و لم أفهمها: ليست على رأسه ريشة … يا ربّاه ǃ و هل في بلادنا هنود حمر حتى يضع أكبرنا مروحة ريش فوق هامته؟
أنا طبعا لست مع هذا الشخص، و لكنني لست ضده و على العموم لا أهمية لموقفي منه … و لكني أسأل بكل غباء: ما معنى أن يتم إيقاف مواطن و يتم الاحتفاظ به شهرا أو شهرين أو 14 شهرا كما يقولون، و يمكن أن يخرج ثم يعاد إيقافه مرة و مرتين و أكثر، و لمدد يعلم العليم وحده كم ستطول؟ … كل هذا دون محاكمة و لا حكم و لا تحكيم … و دون تدخل من رابطة حقوق الإنسان التي منذ حفل جائزة نوبل لم نعد نعرف هل بقيت أم انقرضت … و لا من رئيس الجمهورية الأول بعد انتخابات 2011 و تلاميذه العديدين و كل واحد منهم يشار إليه على أنه حقوقي من رأسه حتى القدمين … و لا من لجان حقوق الإنسان الكثيرة و لا من مجلس النواب و لا من أمنستي و لا من عمادة المحامين و لا من جمعية المحامين الشبان و لا من واحدة من آلاف الجمعيات المسجلة عندنا و هي كالعنقاء تسمع بها و لا تراها … و التي إن تحرك بعضها يوما فللمطالبة بحقوق مشبوهين بالإرهاب أو صاحب مدرسة الرقاب أو مهربي سلاح ممسوكين بالجرم المشهود …
و مع القروي، يتساءل القانون (النص لا الآلة الموسيقية) عن وضع سامي الفهري، و عن وضع شفيق جراية الذي تتوالى السنوات و لا أحد منا يعرف متى سيحاكَم، مُدانا كان أم بريئا … و لا حديث عن أنسباء النظام السابق فهم هناك يبدو حتى إلى يوم الدين … و لا علاقة لكل هذا بإضراب القضاة، فالقصة ماضية في سبيلها منذ عشر سنوات و كلنا نتفرج كالبهاليل …
من معاني الدولة و العمران في اعتقادنا أن يكون هناك عدل … و العدل لا يتعامل مع الناس بمبدإ هذا متاعنا و هذا متاع الشيطان … هي فقط أدلة و تحقيق و توجيه اتهام و سماع متهم … ثم الحكم في النهاية له أو عليه … أما أن نستسهل الدوس على الحقوق ما دامت لأناس لا نحبهم … فقد يأتي يوم يداس فيه من نحبهم، و يأتي يوم آخر تجد نفسك و أجد نفسي في غياهب زنزانة ظالمة لا خروج منها و لا خلاص …