أمس استمعت إلى شذرات من حوار على راديو موزاييك بين الهادي زعيم و أحد الصحفيين الرياضيين … و ما شدني مقطع أصرّ فيه محاور المزاودية و جانحي الراب على ضيفه بأن يكشف عن انتمائه الرياضي، فكان الجواب رافضا … و بين رفض هذا و إلحاح ذاك، كاد يصيبنا الدوار خاصة أن السؤال قانونا يدخل في باب المعطيات الشخصية …
نعم … في البلاد المتحضرة لا يُسأل الواحد عن ديانته و لا عن سنّه و لا عن أمراضه و لا عن مرتبه الشهري و لا عن رقم تلفونه و لا عنوان مسكنه إلخ … أما في تونس الموغلة في الحضارة، فيسمح كل هابّ و دابّ لنفسه بأن يسألك عن كل هذا و يزيد بأن يحشر نفسه في هل تصلي جماعة و من انتخبت في 2019 و كيف لم تتزوج إلى الآن و إن “استحصنت” فلماذا ليس لك أطفال و ما زلت في الكراء و كم حصلت أختك على معدل في النوفيام و هل العرج في ساقك مؤقت أم إعاقة خلقي من عند ربي …
و يقيني أن أخطر سؤال في ربوعنا على الإطلاق يبقى: ما ناديك الرياضي المفضّل؟ … شوف، نحن من بلد لا خوف عليك من أن يقتلك فيه مسلم لأنك مسيحي، أو يسحلك سنّي لأنك شيعي، أو يطعنك شيعي لأنك من أهل الحديث، فقد أراحك محرز بن خلف من هذه الشوارد منذ عشرة قرون … كما لم يعد هناك قلق عليك من هجمة جياع أو حتى حسدهم فقد تكفّلت 2011 و ما تبعها بتعميم الفقر على الجميع، فلم يبق تقريبا أحد يخشى على ثروة أو فيه فضلة طمع …
قبل أن يأتي ساسة 2011، لم تكن تفرّق بين التونسي و التونسي سوى الكرة … و سيرحل يوما ساسة 2011 بغير رجعة، و ستعود الكرة و انتماءاتها كخط نار وحيد يفصل بين أفراد شعبنا … و من جديد سيكره بعضنا البعض كره العمى لأجل دربي أو كلاسيكو أو غيرها من المصطلحات الأقرب ما تكون في معانيها إلى القاموس العسكري … يمكن للتونسي أن يسامحك في عشائه أو كرسيه في المقهى أو دوره في طابور بنك، و لكنه يستحيل وحشا كاسرا (و شاتما بأقذع النعوت) إذا ما واجهته رياضيا … و رأينا مثلا في قضية الشابة كيف أن البعض كانوا يدفعون دفعا إلى عصيان مدني و ربما حرب أهلية …
غريب، فهل نحن البرازيل حتى تفعل كرة القدم فينا هذا الفعل؟ لا، لسنا البرازيل و لكن فئة من صحافتنا الرياضية بل أغلبها انخرطت منذ الثمانينات في ظاهرة لافتة … ظاهرة حق الصحفي في التصريح بانتمائه الرياضي هكذا علنا و بمناسبة و بغيرها … و بما أن الحق ينادي الحق، فقد انتقل الانتماء من القول إلى الفعل، و صار مشروعا أن “يمارس” السيد الصحفي انحيازه ذاك على متن وسائل إعلامنا دون أن يلومه أحد … فصرت ترى برامجنا تتلون بحسب جمعية المقدم أو المنتج أو صاحب القناة، و أضحى الديكور لا يكتمل إلا بدعوة كرونيكور عن كل ناد من الأربعة … حتى لو كان الموضوع عن بطولة الهوكي في فنلندا …
أذكر جملة شهيرة لصديقي الهرقل محمد علي الفرشيشي … إذ قال مرة سيأتي يوم تُرفع فيه أعلام النوادي فوق منصة الصحفيين، و قد أتى ذلك اليوم فعلا يا دالي، و بأسرع مما تتصور و أتصور … و رحم الله زمنا كان فيه كبار الإعلام يترفعون عن مزالق عدة، من بينها مسألة التصريح بالانتماء هذه … و قد سمعت من المرحوم عبد المجيد المسلاّتي: قليلون جدا في السابق كانوا يعرفون أني “كلوبيست”، و أن الطاهر مبارك مكشّخ، لذلك كانت برامجنا تمرّ في أمان، و كنا حريصين على علاقة الاحترام بيننا و بين جماهير الرياضة … واجبنا أن نكون محايدين تماما لا أن نحوّل الإذاعة إلى فيراج في خدمة هذا أو ذاك …
و لكن ذلك لم يدم كما أسلفنا، خاصة مع انحطاط صحافتنا الرياضية في الثمانينات … و رأينا نتيجة ذلك على مستوى المهنة و المصداقية و سلامة المشهد الرياضي عامة … و حتى على تشدد مجتمعنا و جنوحه نحو الدم، مما خلق أرضية خصبة لدعاة الإرهاب في السنين الأخيرة …
أرأيت أين أوصلتنا بسؤالك الفضولي الركيك يا هادي زعيّم؟؟