أتى الحجاج بن يوسف الثقفى بصندوق مقفل غنمه من كسرى، فأمر بالقفل أن يُكسر فكُسر، فإذا به صندوق آخر مغلق، فقال: من يشترى منى هذا الصندوق ولا أدرى ما فيه؟ فتقدم عدد من الحاضرين، فرسا على أحدهم بمبلغ ضخم يقدر بخمسة آلاف دينار، وفتح المشتري الصندوق ، وإذا به رقعة مكتوب عليها “من أراد أن تطول لحيته فليمشطها إلى أسفل” !
ذكرتني هذه الحكاية بوضعنا في تونس فقد اشترينا صندوقا مغلقا غامضا بـ 620 ألف صوت في الدور الأول و بحوالي مليونين و 700 ألف صوت في الدور الثاني من انتخابات 2019 و مازلنا إلى اليوم نحاول فتح مغاليقه… و ما أتاه الرئيس قيس سعيد منذ يومين و قبله يوم 25 جويلية ليس إلا ورقة من الورقات الملقاة في قاع هذا الصندوق و بداية كشف لنواياه و رغباته التي كنا نستشعرها – و إن كانت مبطنة – و لكنها اليوم أخذت تتوضح شيئا فشيئا إن الرئيس قيس سعيّد و منذ جلوسه على كرسي قرطاج كان ينتظر هذه اللحظة بل و يستقدمها و يُعِدّ لها العدة فطيلة سنتين تقريبا كان من بين المساهمين في تعفين المشهد السياسي في تونس برفضه كل مبادرة و كلّ مقترح عُرض عليه…
طيلة سنتين لم يقدم مشروع قانون واحد إلى البرلمان و لم يتقدّم بأي نص تعديلي رغم أن لمقترحاته أولوية النظر و النقاش … طيلة سنتين تفنن في تخوين الجميع و ترذيلهم فكلهم يتآمرون ضده في الغرف المظلمة و خونة فاسدون… طيلة سنتين تفنن في إيهامنا بأنه مهدد بالاغتيال في إخراج مسرحي ركيك مرة عن طريق الخبز و مرة عن طريق الظرف المسموم الفارغ الذي أصاب مديرة ديوانه.. طيلة سنتين لم يتورع عن الظهور بمظهر الأمين النظيف المستقيم العادل مقابل الآخرين.. هم… المتخابرون مع الأجانب المنتهكون لإرادة الشعب المتلاعبون به و بصحته طيلة أشهر كان يرى الشعب يموت و الوباء يفتك بالبلاد و لم يتحرك و لم يستعمل صلاحياته الدبلوماسية و الخارجية لاستجلاب التلاقيح و الأوكسيجين و الٱدوية إلا في لحظة 25 جويلية ليظهر بمظهر المنقذ الأمين…
قيس سعيد و منذ سنتين كان يستقدم هذه اللحظة التي سينفذ فيها مشروعه الانتخابي الذي كان يلمح إليه منذ 2013 من أجل تفكيك منظومة الأحزاب و كل الأجسام و الهيئات الوسيطة … هذا المشروع الذي بدأت تنسيقياته في إعداد تفاصيله و نشرها بين الشباب و أفراد الشعب في الاجتماعات التي عقدتها في الفترة الأخيرة … مشروع انتخابات على مقاسه و وفق تصوّره تلغي الأحزاب و تهمّشها و تنتج برلمانا غير متجانس يقع اختيار أعضائه وفق شكل تجريبي من الديموقراطية المباشرة و مقاييس غريبة تعتمد على حد قوله البناء القاعدي من المحلي نحو المركز … (بالإمكان مراجعة حواره في أسبوعية الشارع المغاربي بتاريخ 12 جوان 2019)
لا أحد ينكر أن الأحزاب التي أمسكت بالسلطة طيلة العشرية الأخيرة و لا سيما حركة النهضة قد قضت عشر سنوات في المماحكات و العنجهية و التسلط و محاولات التمكين و التمكن من مفاصل الدولة و من المحسوبية و الدوس على المبادئ و ساهمت في تضاعف الفساد و الإفساد و في تفقير الشعب و تجويعه و حتى إبادته بتهاونها في صحته… و لكن هل نتشفى من النهضة و أتباعها و ممارساتهم بمباركة التعدّي على أبسط مقومات الدولة و الديموقراطية؟ هل نصلح الخطأ بالخطإ ؟ هل نتدارك سلبيات الماضي و تسلط الأحزاب بتسلّط الفرد الواحد؟ إن ما صدر في الرائد الرسمي منذ يومين من قرارات غير محدودة بالزمن هي تأبيد لحالة الاستثناء، و ما ورد فيه من تأكيد على أن المراسيم التي يصدرها رئيس الجمهورية غير قابلة للطعن أو الإلغاء يجعلها في مرتبة أعلى من الدستور و يجعل من الرئيس صاحب القرار الواحد الوحيد الذي لا يستطيع أي كان مناقشته أو مراقبته…
إن هذا الأمر الرئاسي عدد 117 كما ورد بصيغته الحالية في الرائد الرسمي ليس إلا تأسيسا لتسلط من نوع جديد فهو في ظاهره تدابير استثنائية تنضوي تحت الفصل 80 أي تدخل في إطار الدستور ، لكنها في واقع الأمر و حسب محتوى الفصول تنظيم جديد للسلط العمومية دون تسقيف زمني ، جمع فيه رئيس الجمهورية السلطات التنفيذية و التشريعية و حتى القضائية إلى أجل غير مسمّىً و تحوّل بذلك كما تقول لمياء ناجي أستاذة القانون الدستوري من سلطة مؤسَّسة يجب أن تحترم مبادئ و قواعد الدستور pouvoir constitué إلى سلطة مؤسِّسة pouvoir constituant إن من أهم ما ورد في هذا الأمر الرئاسي هو الإعلان عن الاستعداد لتغيير القانون الانتخابي و تعديل النظام السياسي بمراسيم و باستشارة لجنة تحت إشرافه فهو الذي يعين أعضاءها و هو الذي يحدد مهامّهم و يقترح عليهم ما يريد تعديلهم و هو الذي يراقبهم و هو الذي يمكنه أيضا أن لا يستجيب لمقترحاتهم ثم عرضه فيما بعد على الاستفتاء.و هو ما يزيد من يقيننا أن الغاية من 25 جويلية و ما بعدها هي التأسيس للنظام الذي يريده” قيس سعيد ” …
سيدي الرئيس، إن المساندة الشعبية التي تلقاها اليوم و الإغراءات التي تقدّمها لك نتائج سبر الآراء تبقى دوما هشة و لا يمكن أن تتواصل كثيرا و قد تتحطم على صخرة أول إخفاق اقتصادي لك و إن التخفي وراء شعار ” الشعب يريد” و اعتقادك بأنك تستمد شرعيتك و مشروعيتك من أن الشعب كل الشعب معك هو اعتقاد لا ينبني على أسس واقعية فهل كل الشعب معك؟؟ لا أعتقد… و هل انتخبك الشعب من أجل إلغاء الهيئات أم من أجل إحداثها و تدعيمها ؟ و هل انتخبك الشعب من أجل تمزيق الدستور أم من أجل تطوير آليات العمل به ؟ هل انتخبك الشعب من أجل تغيير النظامين السياسي و الانتخابي أم من أجل إرساء دعائم الديموقراطية وفق الدستور الذي أقسمت عليه؟ هل انتخبك الشعب لتغيير الدستور أم لتحقيق رفاهه المادي و المعنوي؟
إن أكثر ما يريده شعبنا هو تعليم جيد لأبنائه و صحة طيبة لعائلته و توفرا للدواء و أمنا في الطريق و سلامة في الجسد و وفرة في السلع و أجرا محترما و رخاء في العيش و عملا لمن لا عمل له و منزلا لمن لا منزل له و آخر ما يعنيه هو فصول الدستور و صراعك مع الأحزاب و المنظمات… إن الوضع الاقتصادي الهش الذي تعيشه تونس و اقترابها من حافة الإفلاس و تزايد الدين الداخلي و الخارجي يقتضي منك تقديم الأهم على المهم… فلا تُضع وقتنا وما بقي من مقدرات بلدنا لتنفيذ رغباتك و أهوائك الشخصية … فإن كانت لحظة 25 جويلية قد خلصت الشعب من عربدة البرلمان فاستبشر بها و ثمّنها فإنه كان يمكن مواصلة التأسيس عليها من داخل نفس الدستور بإبعاد كل النواب الذين ثبت فسادهم و ارتشاؤهم و تلبسهم بقضايا إجرامية و عودة مؤسسات الدولة دون انحراف بالسلطة و احتكار لكل السلط و لكنك في سعيك إلى إلغاء منظومة الأحزاب للتركيز نظامك الطوباوي استعملت شعار الغاية تبرر الوسيلة…
فالدستور ليس سيئا كله و أنت الذي أشدت به في أحد تصريحاتك بعد المصادقة عليه في جانفي 2014 و لكن السيء هو طريقة تعاطي النواب معه و هذه كان من اليسير إصلاحها و منذ بداية عهدتك لو مددت يدك إلى من قدموا لك النصح صادقين و استمعت إليهم و لم تكتف بسماع صدى نفسك و صدى المحيطين بك دستور 2014 كان بمصادقة 90٪ من نواب المجلس التأسيسي الممثلين لكل الأطياف السياسية آنذاك و برقابة من منظمات المجتمع المدني… فلماذا تصر على تغييره بدستور لا يخضع إلا لمزاجك الشخصي في ظرف استثنائي تعيشه البلاد و في مزاج شعبي قوامه الحقد و حب الانتقام و الرغبة في إقصاء المخالفين و هذا ما غذته فينا كلماتك الموتورةالمتوترة و خطاباتك المتشنجة المقسمة للشعب…
سيدي الرئيس إن الشعب يوم ثار على بن علي صرخ ” شغل حرية كرامة وطنية” فلا تدس على رغبته و أنت كما تقول تستعيد اللحظة الثورية … فليس بتغيير الدستور و تمزيق أوصاله ستضمن له الشغل و الكرامة و ليس بإحتكارك لكل السلط ستحقق له الحرية….