لم أصدق حين دعاني صديق إلى سهرة خاصة سيكون من بين ضيوفها الملحن بليغ حمدي … كان ذلك سنة تسعين و كان بليغ في تلك الفترة مختفيا عن الأنظار بباريس بسبب ملاحقات قضائية في مصر … وافقته على الحضور و كنت متلهفا لتلقي هدية نزلت إلي من السماء. و رغم علمي المسبق بأن بليغ لا يجري أحاديث صحفية فقد حضرت السهرة …
كنا نتسامر في انتظار صاحب الموهبة الخارقة و الفضل الكبير على الموسيقى العربية … و فجاة غمر السكون المجلس فتراءى لي بجسده النحيف، و بعد أن حيانا جميعا بصوت يكاد لا يسمع جلس إلى جانبي فأحسست برهبة حقيقية … رهبة محاذاة صانع الروائع و لم أجرؤ على النظر إليه مخافة أن تكذبني حواسي. و شيئا فشيئا انصرف الحضور إلى حوارات جانبية فاغتنمت الفرصة للتلاطف معه ثم هممت بإبداء رأيي في الفروق بين الموسيقى العربية و نظيرتها في الغرب و كان يصغي أكثر مما يتكلم ثم استوى فجاة في جلسته فشعرت لحظتها أنه كان مهتما بما قلته عن إيديت بياف و جاك بريل و ليو فيري و شارل أزنافور و كانني فتحت شهيته للغوص في التفاصيل …
و من لحظتها تلاشت مخاوفي و سار حوارنا على سجاد الحميمية و التناغم إلى درجة خلت أنني أعرف الرجل مند زمن بعيد … و دون تخطي حدود اللياقة أفصحت له بشيء من الجرأة عن استغرابي من جنوحه إلى إعطاء ألحان لأصوات لا يمكن أن ترتقي بالمرة إلى قيمة أم كلثوم و عبدالحليم و وردة و غيرهم من عمالقة الغناء … فكان جوابه أن الغناء الطربي يحتاج إلى طاقات صوتية واسعة المساحة لاستيعاب الألحان الدسمة بينما الأصوات الأخرى لا طاقة لها بذلك و هي تصلح فقط لأداء أغاني العوالم كما يقولون في مصر…
عندها انقضضت على الفكرة و سألته عن تفسيره لسر نجاح أم كلثوم مقابل إخفاق سعاد محمد و هي صاحبة صوت لا يقل عذوبة عن صوت الست … فأطرق قليلا ثم قال: الفرق أن أم كلثوم لها حضور الزعيم الذي تشرئب له الأعناق و هذا عطاء من الله لا يمكن تفسيره … كل هده المحاورة بتفاصيل أخرى كثيرة جرت دون أن تكون لي أو له في ما أظن نية إجراء حديث صحفي لكن صبغة الود التي طبعت لقاءنا جعلتني أقامر و استأذنته إن لم ير مانعا في أن أشغّل جهاز التسجيل فوافق …
عندها عدت إلى رهبتي الأولى و أحسست برعشة في أناملي و هي تخرج الجهاز الصغير من حقيبتي اليدوية خيفة أن يكون قد أصابها عطب ما، لكنها أبت إلا أن تكون في الموعد فضمّنت الحوار بكل أمانة و نشر في عددين متتاليين بجريدة الأيام وكان له صدى واسع، و لعل ما أدهشني أن الحديث حظي باهتمام كبير أيضا في الصحافة المصرية … أروي حكايتي هذه و لديّ قناعة بأن سخاء الأقدار قد يمنحك فرصة مصافحة العبقرية …العبقرية التي قال لي عنها فناننا المسرحي الكبير محمد إدريس….إنها لا تجري في الشارع !