طبعا نحفظ لذكراك أنقى الصور بألوانها وأبيضها وأسودها يا عندليب شبابنا … ولكن رغم فجيعتنا فيك ذات صباح بعيد، فإنك تسمى محظوظا نسبيا قياسا إلى كثيرين أعطوا هم أيضا بلا حساب وكانوا إكسيرا لحياتنا ومرافئ لضياعنا ومدافئ من قرّنا وزمهريرنا … البعض يضعهم في قائمات الشهداء، والبعض يرصدهم للخلود، ولكن أغلبنا يجهل أغلبهم، بل يتجاهل وهذا هو الأمضّ إيلاما …
منذ أيام أقامت فرنسا موكبا مهيبا بمناسبة نقل جثمان أحد المقاومين ضد الاحتلال الألماني إلى مدفن العظماء المسمى “بانتيون” … المقاوم يدعى “ميساك مانوشيان” وهو مهاجر أرمني كان عاملا وشاعرا ومناضلا يساريا تزعّم المقاومة ضد النازيين ودفع حياته ثمنا لذلك … ومن التقاليد الشائعة في تلك البلدان (مثل فرنسا) أن كل من يلمع في مجال ما، فكرا كان أم فنا أم علوما أم نضالا لأجل قضية نبيلة، يتم تكريمه بأشكال شتى أعلاها تخصيص مكان لجثمانه في “بانتيون” الخالدين … وأمريكا عندها مقبرة “أرلينغتون” ولكنها أوسع وأكثر “ديمقراطية”، لأنها تستقبل كافة الرؤساء و أيضا كل من يموت في حروب أمريكا الكثيرة وحتى رجال مخابراتها …
ما يلفت النظر في القصة أن موضوعا كهذا لا يعنينا هنا في تونس … صحيح هناك ثلاثة قبور في مرتفعات سيدي بالحسن لرجال من الحركة الوطنية (منجي سليم، الطيب المهيري ونسيت الثالث) ولكن اقتصار التكريم على ثلاثة فقط ليسوا بالضرورة أكثر من ضحى لأجل البلاد بل عاشوا بعد الاستقلال وتسلموا مناصب وزارية … اقتصار ذلك عليهم من دون عشرات المقاومين وخاصة الذين استشهدوا في ساحة الوغى، وكذلك استثناء المرأة التونسية مهما فعلت، من اعتراف أسمى كهذا … كل ذلك جعل من القبور الثلاثة موضع تندر وتصنيف على أن أصحابها قد يكونون من الأولياء الصالحين نفعنا الله ببركاتهم …
المسألة في أصلها لا تهمّ الأموات فهم انتقلوا إلى رحمة الله غير مكترثين باعترافنا من عدمه، ولكن يهمّ الأحياء كيف ينظرون إلى بلدهم وكيف ينظر إليهم هذا البلد … هناك ثقة شبه تامة بأن بلادنا بقعة جحود لا يكبر في عينها إلا من يكون واقفا قويّا مخيفا … أما الضعفاء، أما الراحلون، أما الواقعون فوق الأرض أو تحتها، فلا قيمة لهم ولا ميزان … وباستثناء برابرة 2011، فلم يطالب مناضل واحد أو شهيد أو فلاّق بنعويض مادي أو عيني أو معنوي … ربما أسندت في السابق لبعض الوجوه مناصب إثر الاستقلال كما أسلفنا، ولكن ذلك كان أساسا لأسباب تتعلق بالكفاءة والقدرة على إفادة الدولة الطازجة … أقول هذا من باب التعميم ودون الدخول في تفاصيل استثناءات يطول عليها الجدل …
نعود إلى التكريم المعنوي لكبارنا … في البلاد التي تحترم نفسها، لا يتم نسيان أحد ولو بعد زمن … وليس هناك مدفن العظماء فقط، بل هناك خاصة أسماء الشوارع والساحات والمعالم وحتى السفن وحاملات الطائرات إلخ … ما يثير الانتباه هنا، فقط شخصيات وطنية قليلة عليا تطلق أسماؤها على الشوارع في العاصمة وأية مدينة دون تمييز … شخصيات مثل نابليون وديغول وتشرشل وجورج واشنطن وجيوزيبي غاريبالدي، تجدها حاضرة في كثير من مدن فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة وإيطاليا … ولكن إلى جانبها، توجد شخصيات محلية تظفر بالصدارة في المدن والأقاليم التي فيها نشأت أو عليها فارقت الحياة أو لأجلها قدمت عملا جليلا … لذلك نجد أسماء مثل “إدوار هيريو” في مدينة ليون، و”غاستون ديفير” في مرسيليا، وملعب “جوفروا غيشار” في سانت إيتيان، وساحة “جان جوريس” في مدينة تور، ومطار “جون لينون” في ليفربول، وجناح “هوفر” في جامعة ستانفورد الأمريكية إلخ …
ما يكمد القلب أننا في تونس ، تطلق بلدياتنا على شوارعها إما نفس الأسماء المتكررة في الشمال والجنوب وخاصة الثلاثة المذكورين أعلاه، أو تعود إلى عشرات الصحابة والتابعبن وتابعي التابعين ممن لا يعرفهم أحد أو تحوم حولهم شبهات كعبد الله ابن أبي سرح الذي إن خلّدنا اسمه بداعي الفتح الإسلامي فكل المراجع تشير إلى أنه ارتدّ عنه … أي والله … فضلا عن وجوه من تاريخنا المعاصر نقرأ عن خياناتها ومع ذلك نشهرها كالسيف في نواصي شوارعنا كالوزير الفاسد مصطفى خزندار … ملحوظة: الحديث هنا عن “شارع” مصطفى خزندار بالملاسين، وليس عن “معهد خزندار” بباردو والمنسوب إلى الشاعر الشاذلي خزندار، وشتان بين هذا وهذا …
ليتنا نجد في المعالم الخصوصية لأية مدينة من مدننا أسماء من خصوصيتها وقاع خابيتها … بدل هذه التسميات المتكررة برتابة منذ نصف قرن دون تبديل أو وعي، فتشعرك أنك لم تخرج من العاصمة ومن رداءاتها الكثيرة والكثيفة … ففي الجمهورية ستون حي نور، وسبعون حي زهور، وثمانون حي نصر وأمل وتضامن وزياتين وتحرير ونزهة ونسيم … في حين أنها في معظمها أقرب إلى الجدب والخيبة والطبعة والظلام الدامس …