دفءُ نار

رايْ تمشي بالرنّة *

نشرت

في

حكّامنا، لن أقول التونسيّون، لأنهم لو كانوا تونسيين ولو قليلا لما هان عليهم التنكيل بنا كما يفعلون، ولما هانت عليهم دولة قائمة – بهِناتها ومُعضلاتها-  لكنها واقفة في المحفل الكوني… سأقول حكّامنا الحاكمين بأمرهم يمشون بالرنّة، يتمايلون ويتهادون ويتبخترون كلّ في موقع رئاسته يلوكون كلاما مستهلَكا مجّه عامّة الناس باستثناء مريديهم البلهاء الانتهازيين ممّن يحاولون حجب عين الشمس بالغربال.

منصف الخميري

وكأن الأزمة المعمّمة لم تبلغ أشدّها بعدُ … وكأن الله اصطفاهم وحدهم دون سواهم ليمارسوا علينا دروشتهم…وكأن مواقعهم البائسة أكثر أهمية من الموت الذي يحدق بالتونسيين ومن الإفلاس الذي يهدد مالية الدولة والضياع الذي يهددنا جميعا.

ثلاثتهم يُغرّدون خارج السّرب لا ملفات آلاف العاطلين تعنيهم ولا حالات ملايين المنقطعين مدرسيّا تُنغّص عليهم ولا مديونيّة تونس التي بلغت حد الارتهان النهائي تؤرّق نومهم الباذخ.

  1. فيما يخص رئيس الجمهوريّة، فيبدو أنه غير واع مُطلقا بأن ما ننتظره منه لهُ شرعية استحقاقية أكبر ألف مرة من شرعية دستورهم الذي قُدَّ من إبهام ولبْس مُبيّتين وهذيان إنشائي لا يَصلح ولا يُصلح. 

لكن أعتقد شخصيا أنّه لم يصادف خلال مسيرته هذا النّحت على الحجر للشاعر الفلسطيني معين بسيسو الذي يقول :

“الآن تعرف ان شُبّاكاً صغيراً
من تراب الأرض
مفتوحاً لوجهك وحده
ستُطلُّ منه على الوطن
..
. الآن تعرف ان منشوراً بحجم الكفّ
مكتوباً برمش العيْن في نابلس
أبقى من جرائدهم مُطرّزة بأسلاك الذهب“.

من قصيدة سفر سفر التي كتبها الشاعر على طاولة تونسيّة من خشب الزيتون.

هل نحن بحاجة إلى تذكيره بأن مجد الزعماء يُقاس بقدرتهم على التحليق بشعوبهم عاليا فوق أعشاش الدبابير و أوجرة (جمع وجار) الثعالب وجحور الأفاعي؟ وعلى تحقيق ما يشبه المعجزات؟ وعلى التصرف كما يتصرف المهندسون البُناة يُعبّدون الطرقات، طرقات الحرية والانعتاق الحقيقيين ؟ ويقدرون على تحدي المستحيل ليقولوا له “لو كان المستحيل جوادا لركبته” ! وأنه ولّى زمن من يعتاش على سلطة الفصاحة والنّحو كما يقول الدكتور عبد الجبار الرفاعي.

مُهجة رئيسنا وهو يُقضّي السّاعات الطوال في تدبيج المعلقات هي أقرب إلى ياقُوت المُسْتَعْصِمي الملقّب بـقِبْلَة الكُتّاب، وهو خطّاط شهير وكاتب وأديب من أهل بغداد، رومي الأصل، من مماليك المستعصم بالله آخر خلفاء العباسيين، توفي عام  696 هـ ، من آثاره “أسرار الحكمة “، و” أخبار وأشعار”، إذ يقول هذا الأخير إنّ الخط هو “هندسة روحانيّة تمّت بآلة جسديّة“. و “تذكارًا لرفاهيّة روحيّة عميقة نابعة من نفس صافية تواجه العصر المضطرب والشائك في كثير من جوانبه.”

  • أما رئيس الحكومة فرأيي أنه يمشي بالرنّة كذلك هو وحكومته نصف المقالة ونصف المباشرة وشبه المتصرفة في الأعمال ونصف المُسيّرة لشؤون نصف الوزارات بالنيابة… إذ هي حكومة غير واعية على ما يبدو بأنّ يوما واحدا يمضي دون إرادة حديدية صادقة هي حسابيا مئات المصابين بالكوفيد وعشرات الموتى وآلاف التلاميذ المنقطعين وآلافا آخرين لم يتسرّبوا ولكنهم لم يُراكموا شيئا معرفيا يذكر، وآلاف الهكتارات غير المُسمّدة وصيف على الأبواب لم نعدّ العدّة لمواجهة عطشه ومقاومة حرائقه … كثيرون هم الوزراء الذين أراهم يقضون نصف وقتهم في الوزارات التي يسيرونها، في هندسة تعيين الموالين وعزل المناوئين وترضية الأحزاب التي زكّت تعيينهم (ولكم في الرائد الرسمي نماذج صارخة لموجات العزل والتعيين والترضية).
  • رئيس مجلس نواب الشعب من ناحيته لم يشذّ عن قاعدة المشي بالرنّة هو الآخر والنطق بالغُنّة ولا نعرف إن كان ذلك فرضا أم سُنّة.

يبدو دائما في غير عجلة من أمره لا تحركه الأحداث ولا تهزه الارتجاجات القوية في جمجمة الوطن. يترأس الجلسات العامة أو لا يترأسها ذلك أمر ليس بالمهم، حريص بصفة خاصة على ترتيب بيت المال واصطياد المستشارين والمتعاونين من بين أعضاء زبدة بطانة النظام القديم فبعد الغرياني استجلب المسعودي وبعدهما ضغط لتعيين بن يونس في وكالة تونس افريقيا للأنباء.

وفي المحصّلة نجد أنفسنا أمام حكومة تمشي الهُويْنى، وزراؤها متثاقلون، يمشُون ويتكلّمون بتؤدة وتمهّل في خطة تبدو ممنهجة لاستنزاف ما بقي فينا من أمل ودفع شبابنا دفعا إلى ركوب بحار الهجرة والجريمة والانحراف وجرّنا جرّا إلى دفن أحلامنا ووأد طموحنا وآمالنا.

كُنت مازالت أفكر كيف أنهي هذه الورقة حتى التقيت صديقا عزيزا يعمل إطارا أمنيا ساميا اقترح عليّ وقبلتُ أن أُنهيها كالتالي :

صراعات ما يُسمّى بالرئاسات والأجنحة ومراكز النفوذ لها ثمن باهظ جدا ربما لا يتمثّلونه الآن تحت وطأة المصالح الآنية والضغوط الأجنبية. وهذا الثمن سيكون تونس بصورتها وتاريخها وحضارتها وعِزّة شعبها. ولكن ليتهم يُدركون أننا لن نغفر لهم، وسيُعاملهم أحفادهم كخونة بائسين أو كمسؤولين متخاذلين في أحسن الأحوال.”

* كانت جدّتي رحمها الله تردّد على مسامعنا ونحن صغارا هذا الطرب الشعبي “رايْ تمشي بالرنّة وحزامها دلاويح…. كان ما جتشي السّمراء نا نهبل ونسيح” من ساح يسيح سيْحا وسيَحانا وسياحة. ساح في الأرض أي ذهب فيها و هام.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version