معتذرون مسبقا للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني على هذا التصحيف لعنوان روايته الذائعة … غير أن إيقاع الأحداث وتحوّل ديكورها وأبطالها من ستينات القرن الماضي إلى اليوم، حتّم علينا التراجع حتى في أقوالنا … بالضبط كما تتراجع حقائق الأرض حين يتغيّر فكر وسلوك الواقفين عليها …
يوما واحدا بعد احتفال المصريين والسوريين والعرب بمرور خمسين سنة على ملحمة ما زالت تقشعرّ حواسنا لذكراها … أيام العبور المجيدة التي أوقفت العرب على أقدامهم لأوّل مرة في المواجهات المتكررة مع عدوّ مكين لا يرحم … كانت أوقاتا من العزّ عشناها ونحن نرى حصن “بارليف” المنيع ينهار تحت أقدام بواسلنا كبناية ورق … علما بأن تفاصيل جدار بارليف هذا، تجعل أكبر جيوش العالم تحجم عن مجرد الاقتراب منه … عشرات من التحصينات والمكامن وأبراج المراقبة والجبال الشاهقة والأسلحة الثقيلة المتربصة وألاف الجنود المدججين بالدمار والذخيرة والحقد الأسود … طاروا جميعا في الهواء بلحظة مجد من التي لا يفهمها المؤرخون … ومع انهيار الجدار انهارت قوّة الشرّ وفرعنة ربع قرن لأناس لطالما وجدوا راحتهم في إهانة عرب من خارج هذا الزمان …
يوما واحدا على نصر أكتوبر وعنفوان تشرين، ينتفض العرب ثانية على واقعهم البائس ومصيرهم المهزوم المحتوم لينهالوا على العدوّ بمخالبهم كالنسور النازلة من عنان القدر … ومثلما تغافلنا عمدا في الأسطر السابقة عن طبيعة الإدارة السياسية لنصر أكتوبر وبيد من كانت وكيف انحرف بها من نقيض لنقيض… فها أننا اليوم نترك جانبا نوايا الساسة في غزة مهما حسُنت أو ساءت … نكتفي فقط بالميدان واللقطة المصوّرة التي يقف فيها المقاتل وحده ويلتحم بالخصوم رجلا لرجل وجسدا لجسد … هذا ما يعنينا الآن وهو الأصحّ … وكم نحن بحاجة إلى إثبات أن سرّ هزائمنا الماضية وانتصارات عدوّنا المحمي من عالم جبان منافق، ليس في أيدي فرسان الساحة بل كان دوما نتاج قرار سياسي بالغ الرداءة والرعشة والتواطؤ …
مع ضربات الأبطال الموجعة أمس على أمهات رؤوس الغاصبين، رأيت سعد الدين الشاذلي وعبد المنعم رياض وعدنان الحاج خضر ومحمد الدغباجي وعبد الكريم الخطابي والأمير عبد القادر وجميلة بوحيرد وعمران المقدمي … كان المقاتل العربي قائما بوجهه المعروق وطوله الفارع وعينيه الحمراوين الثاقبتين، يجندل الخصوم ويفتح الثغور ويزلزل الأرض كأنه في جفن الردى وهو نائم … انتقلت المعركة أخيرا من طور الدفاع والاختباء والتذلل لدى وساطات دولية طلبا للرحمة، إلى مواجهة السيف بالسيف، والمدفع بالمدفع، والصاروخ بالصاروخ، والموقع بالموقع، والشهيد بعشرة، والأسير بمائة … وليكن ما يكون …
هاهم يجتمعون في قصور واشنطن وباريس ولندن وربما في علبة القصدير الصدئة المسماة مجلس الأمن … وهاهم يصدرون وسيصدرون بيانات التنديد وأشد عبارات الإدانة والتهديد والوعيد … ويقولون عنا إرهابيون وهمجيون وبرابرة وأكلة لحوم بشر … وستأتي منهم قرارات بالمقاطعة والمحاصرة والنبذ وتجميد الأرصدة والمنع من السفر ووضعنا خارج المجتمع الدولي … وسيحظر فايسبوك مئات آلاف الصفحات وملايينها … ليكن ذلك، ليكن وما همّنا …
يروى أن السيدة أم كلثوم سمعت مرة قصيدة هجاها بها أحمد فؤاد نجم، فاستشاطت غضبا وقالت مهددة: “سأخرب بيته” … فقالوا لها: “إنه لا يملك بيتا حتى تخربــيه” … فعقبت: “إذن سأرمي به في السجن” … فأجابوها: “هو بطبعه مرميّ في السجن … ومنذ مدة طويلة” !