ردّا على بعض الجامعيين والمثقفين التونسيين الأشاوس
نشرت
قبل سنتين
في
ذكّرني موقف بعض المثقفين التونسيين من الإقبال المكثف للقرّاء على كتب ياسمينة خضرا والطوابير الطويلة لتونسيين من كل الأعمار لملاقاته والتحدّث إليه والحصول على توقيع شخصي منه…ذكّرني سخطهم عليه ورميه بكل الألقاب المُشينة والمُقزّمة، بتعبير احتفظت به للمفكّر المصري الشهيد فرج فودة عندما قدِم إلى تونس في نهاية الثمانينات، قال في إحدى محاضراته “كان الشارع المصري مزهوّا بأغنية محمد عبد الوهاب “من غير ليه” التي يقول مطلعُها :
جايين الدنيا ما نعرف ليه ولا رايحين فين ولا عايزين ايه
مشاوير مرسومه لخطاوينا نمشيها في غربة ليالينا…
لم يرُقْ للمتزمّتين ومروّجي الأناشيد الباكية الناحبة أن يفرح الشعب المصري بأغنية عذبة فيها سؤال فلسفي طرحته الإنسانية منذ الأزل، فكفّروا صاحبها ومؤلّفها (مرسي جميل عزيز) معتبرين أن كلماتها تُشكّك في إرادة الذات الإلهية العليا وأن الشك ليس أول مراتب اليقين كما يدّعون” ثم أنهى ملاحظته بالمزحة التالية : “من الأجدر بهؤلاء أن يسارعوا إلى تأسيس حزب النّكَدْ والكمَدْ”.
قرأتُ في الآونة الأخيرة تعاليق لأم زياد وآمنة الرميلي وسلوى الشرفي وعصام المرزوقي ورافع الطبيب وعدة أسماء أخرى تشترك في اعتبار أن أدب ياسمينة خضرا ليس فيه ما يبرّر كل الوله والافتتان به لدى قطاع واسع من التونسيين المهتمّين بالكِتاب.
على سبيل المثال، تقول الرميلي على صفحتها: “انا ما قريتش لياسمينة خضرا حتى حرف رغم ولعي المرضي بالقراءة… زعمة ناقصتني حاجة ؟ تجيبها نزيهة رجيبة: “أنا قريت شوية ونهنّيك… ما ناقصك شي”. أما سلوى الشرفي فترد عليها مُثنّية: “ربحت وقتك وأعصابك…”، وهذا السيد رافع الطبيب يقول هو الآخر : “قد يُصدم البعض، لكن المنتحل لتسمية “ياسمينة خضراء” لا يمثل قمة أدبية ولا استثناء عبقريا كما قدمه بعض “صحافيي” المشهد الإعلامي الرديء في تونس… هذا المؤلف من صناعة الآلة الإعلامية الفرنسية…” إلى نهاية معزوفة التنكيد والتغريد.
صُدمت شخصيا بمثل هذه التعليقات الموغلة في السلبيّة لأنها لا فقط تعتدي على قامة أدبية وثقافية عالية بشهادة كل لغات العالم التي تُرجمت نحوها كتبها (أقول هذا في غير ترديد ساذج لما يقوله الناس وإنما بناءً على الانطباعات الشخصية التي حصلت لي بعد قراءة أغلب كُتبه) بل وتعتدي كذلك على عشرات الآلاف من القرّاء التونسيين الذين استعادوا علاقتهم بالكتاب والذين اقتلعهم ياسمينة خضرا اقتلاعا من أمام شاشات هواتفهم الكسولة.
أليس هذا مصدر فخر وفرح واطمئنان على أنه لدينا في تونس جمهور واسع جدا من القرّاء ؟ أليس هذا مصدر اعتزاز أن يكون لدينا أديب من أبناء جِلدتنا وأبناء حدودنا ولغتنا وثقافتنا يُجيد اللغة الفرنسية التي تعلّمها وأتقنها وسط مناخ من العرق والدموع ؟ وهل باستطاعة فرنسا – التي يلقى في مؤسساتها وسياسييها معاداة واستهدافا أعتى من أي مكان آخر في العالم – أن تصنع أدباء لديهم كل هذه القدرة على الإبداع والتخيّل وتطويع اللغة والثقة بالنفس والشغف والثقافة الموسوعية…هكذا بمجرد قرار إداري بغيض ؟ !
وكيف لإنسان يدّعي انه مثقف وله كتب ومؤلفات أن يجرؤ على الاعتراف بأنه لم يقرأ كتابا واحدا لياسمينة خضرا ورغم ذلك يسمح لنفسه بالتنمّر عليه والسعي إلى تحقير إنتاجه والتقليل من شأنه ؟ ألا يذكّركم هذا بالجملة الشهيرة التي قيلت في كتاب الطاهر الحداد “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” (هذه دفعة على الحساب ريثما أقرأ الكتاب) ؟
سأحاول الإجابة عن كل هذه التساؤلات من خلال بعض العناصر التالية :
المطالعة حصن حصين ضد التطرف والانغلاق
أن يُغرم الشباب بالقراءة، مهما كانت مشاربها، هو أمر محمود في حدّ ذاته ويجب التشجيع عليه وسنّ البرامج الوطنية للارتقاء به، لأن الجهل والأمية وتسطيح الوعي ونبذ الكتاب وغياب المسافة النقدية عن السائد سياسيا ودينيا ومجتمعيا هي البذور الممتازة والمنتقاة بعناية التي تزرعها الإيديولوجيات المنغلقة والعنيفة في المجتمعات التي تروم السيطرة عليها وتدجينها، وأن الإنسان لا يتحرر حقيقة إلا متى أفلت من قبضة المشعوذين والمتهوّلين والدجّالين والأدعياء بمختلف صنوفهم.
ياسمينة خضرا لم يسرق مجده ولم تصنعه الآلات الإعلامية المشبوهة كما يدّعون
هذا الرّوائي لمن لا يعرف أو لمن لا يريد أن يعرف وُلد من رحم الفقر والمعاناة وتربّى تحت السّياط العسكرية وهو ما يزال طفلا، سُرقت منه طفولته وكان مُقاوما (بمعنى résilient) شرسا لأنه عرف كيف يتغلّب على كل ما كان سيكسِرُهُ، أو في أحسن الأحوال كل ما كان سيُرديه ضابطا عسكريا يستثمر انخراط والده في المقاومة وبلوغه – هو- أعلى الرّتب العسكرية ليتمعّش ويستكرش وينتعش ماديا. بالإضافة إلى ذلك، الكتابة عمل شاقّ ومُضنٍ وهو “منيتكبّد أرق الليالي ومَوْجات الصُّداع جرّاء التفكير وذُعر الأيام اللاحقة” كما يقول في إحدى تدويناته. فطبيعي جدا، في ظل هذا الشغف الذي يسكنه والذي يجعله يكتب ويفسخ ويُعدّل ويحسّن ويدبّج ويصوّب ويشكّ وتخذله الكلمات… يوميا من الساعة العاشرة صباحا إلى ساعات متأخرة من الليل، أن يجد طريقه إلى التميّز والتألق وترويض ملاك الإبداع الذي حطّ به في أركان الكوكب الأربعة.
اللغة الفرنسية هي لغة إنسانية لا تلينُ لكل من هبّ ودبّ
قرأت لأحدهم يقول “لست أدري ما اللافت في أدب ياسمينة خضرا …الإعلام يُلمّع صورته … وهو فرنكوفوني ) ! هو لا يدري ما اللافت…؟ هذا الحكم يفترض أن صاحبنا هذا اطلع على نصف كتب ياسمينة خضرا على الأقل فلم يجد ما هو لافت حقا في مؤلفاته والحال أنه لم يقرأ ولو كتابا واحدا لهذا الروائي. ويستشهد هؤلاء بالروائي الجزائري الآخر واسيني الأعرج المختص في اللغة الفرنسية “لكنه تخلى عنها وأصبح أديبا يكتب باللغة العربية” ! فاللغة هنا أضحت هدفا في حدّ ذاتها وكأن الأثر الأدبي والفني يُقيّم من خلال الرموز التي يُكتب بها لا من خلال جودته وعمق المشاعر التي تؤثّثه ومعانقة أنبل المعاني التي يدافع عنها. وإذا سحبنا هذا المنطق الأقرب إلى “اللّغو” على الرسم والموسيقى والنحت والصورة الفوتوغرافية … هل يكون للألوان عنوان انتماء عِرقي غير تناسقها وعمق الأحاسيس المنبثقة منها ؟ وهل يكون للنوتة الموسيقية هوية غير قدرتها على هزّ مشاعر الناس ؟ وهل يمكن للصورة أن تدّعي انتسابا غير ما تعكسه من نَقْل مرهف للواقع أو صدق نظرات …أو ما تُوثّقه من لحظات فارقة في التاريخ ؟
ياسمينة خضرا في كلمة واحدة: عرف كيف يركب جواد اللغة الفرنسية وغزا بواسطتها العالم كأديب جزائري عربي لحما ودما وقلبا وفؤادا ومُهجة ومبادئ. واللغة – مهما كانت- لا تُذعن إلا لمن يُجلّها ويدلّلها ويُلاعبها ويبني مع مفرداتها علاقة مؤسّسة على حسن المعاشرة وعمق الإصغاء.
الباكالوريا التونسية أسهمت في انتشار ياسمينة خضرا
إن برمجة نصوص لياسمينة خضرا في مناسبتين أو ثلاث ضمن امتحان الباكالوريا التونسية (ويصحّ الأمر كذلك مع الكاتب اللبناني أمين معلوف) جعل عددا كبيرا من التلاميذ والأساتذة يطّلعون على قيمة هذا الأثر الانساني ومستلذّات اللغة التي كُتب فيها. وأثير هذه المسألة لأن لجان اختيار مواضيع الباكالوريا ومراجعتها وتثبيتها تُدرك جيدا تبِعات أي اختيار غير مدروس كأن يكون صاحب النص له ميولات عنصرية أو يكون ما يروّج له يتعارض مع القيم الانسانية عموما. وتكفيني شخصيا هذه الضمانة لأقول ان ياسمينة خضرا فوق الشبهات الزائفة وأرفع من المهاترات والمعارك التي تمتنع بجُبن عن قول حقيقة محرّكاتها.
أقول في النهاية أنني أخشى من أن هؤلاء “المُنكّدين” كما قال فرج فودة لا يزعجهم في الواقع مستوى أدب ياسمينة خضرا، بل يزعجهم نجاحه وعالميّته ووصوله إلى قلوب الملايين عبر كل أنحاء العالم. كما أخشى أن يكون وراء اعتراضهم هذا حقيقة أن الكتب التي ألّفوها لا تتجاوز مبيعاتها بعض العشرات من النسخ… وهو وضع لا يتحمّل فيه كاتبنا أية مسؤولية.
قال خضرا مؤخرا وهو يغادر بلادنا “في تونس، التقيتُ بأساتذة مُخلصين وتلاميذ وطلبة يُعلنون بعدُ ملامح تونس العظيمة التي سيُشرق فجرها غدا” (بتصرف).