كان الخبر منتظرا و الوفاة معلنة و مع ذلك حزنْت كثيرا عليه …
إنه صديقي الجميل القلب العفّ اليدين الغزير الثقافة العزيز النفس عبد الرزاق هميلة … شخص من ألاف قد يعترضونك دون أن تحتفظ منهم و لو بصورة عابرة، و لكنك عندما تقترب منه و تستمع إليه و تعيش معه سنين عمل و عِشرة و دردشة و مرور بعشرين ثلاثين موقفا من الأقصى إلى الأقصى … عندما تجد سيرته على الدوام مقترنة بالكلم الطيب و ما يقال فيه من مدح في غيابه أكثر حتى مما يقال في حضوره … وقتها، تشعر أنه صار جزءا منك، و أن حضوره يملأ المكان ذكريات و إفادات و تجارب حياة ثرية يدهشك أن يختزنها هذا الكائن الصغير القامة الشاهق فكرا و تفكيرا و اطّلاعا على كل شيء تقريبا …
و الله … لم أستمتع في حياتي بحديث قدر استمتاعي بجلسات عبد الرزاق التي كانت لحسن حظي غير قليلة، و التي أضافت إليّ ما لم تضفه كتب قرأتها و لم أقرأها، و جامعات التحقت بها و لم ألتحق … كنت في حضرته المتلقي و كان هو الصحفي، و كنت في مجلسه التلميذ و كان يناديني كرما بالأستاذ، و كنت في نقاشاته الأخ الأصغر و كان يعاملني تأدّبا معاملة الكبار …
كل المواضيع كانت مواضيعه، و له فيها رأي و قول و معلومة قد لا تجدها في أدق الموسوعات … من القوانين الإدارية و المالية، إلى شؤون السياسة، إلى الوضع الاقتصادي، إلى موقفه المعلّل الرافض للمناولة و الذي سبق فيه اتحاد الشغل … و قد حدث له أن قدم فيها محاضرة و دافع بقوة عن وجهة نظره في أكثر من محفل … و من كل هذه الشؤون “الجادة” إلى الرياضة حيث كان مخزونا لا ينضب عن تاريخ كرتنا في نصف القرن الأخير … و خاصة عن فريقه المفضل الملعب التونسي، و جيله الذهبي الذي كان أفراده أصدقاء شخصيين له، من ديوة إلى النحالي إلى عبد الوهاب الأحمر إلى محيي الدين الزقير و ابنه العروسي الذي عرّفني به … كما عرّفني بصديقه الآخر و أسطورة الرياضة التونسية محمد القمودي … و غيرهما كثير كثير من معارف هذا الرجل الذي تحس أنه يعرف كل شيء، و كلّ أحد …
كنت أعلم كما يعلم الجميع أن “رزوقة” ـ رغم طيبته و خفة روحه و سماحة معشره ـ صريح مباشر إلى أبعد الحدود… لم يكن يهاب موقفا أو يكبر في عينيه ذو مقام تجاوز حدوده معه … كلنا نعرف أنه ـ و ليغفر لي صديقي الحلو ـ كان صعب المراس متى تمّ استفزازه من أي طرف مهما علا شأنه … مديرو مستشفيات عديدون حاولوا استقباله بشكل لم يعجبه، فندموا سريعا بعدما سمعوا منه الويل و صرخة الحق … كان أمينا إلى درجة الرهبة، ناجعا إلى حد يحار فيه أمهر الخلق … يذهب على قدميه حيث مدراء الصناديق الاجتماعية المشهرة دوما إفلاسها، و يرابط هناك و يستظهر بحججه و وثائقه و منطقه المفحم، و لا يعود إلى مكتبه إلا بعد أن يستخلص حق المؤسسة وافيا على آخر مليم …
صديقي حمادي ـ المدير المالي المتخرج من أكبر معاهد التصرف ـ كان لا يحلف إلا باسمه … و يقول لي إنه كلما انسدّ أمامه أفق و استعصى باب عن الحل، يستنجد بعبد الرزاق … فإذا الأبواب تنفتح، و إذا بالمستحيل يكون ممكنا، و إذا بالآفاق تصبح رحبة فسيحة … ليس في الأمر مبالغة، و الأصدقاء و الزملاء كلهم ما يزالون على قيد الحياة و على قيد شهادة الإنصاف …
فعلا كان أمينا كما قلت أعلاه، و إلى مستوى قل نظيره … في إحدى المرات عاد إلينا آخر النهار بعد رحلة تطواف على الصناديق التي لنا عندها بعض المستحقات … و صعد المدرج المؤدي إلى مكتب المدير العام و ساقاه لا تكادان تحملانه من فرط الجهد … و عندما وصل هناك، وضع حقيبته على مكتب المسؤول قائلا: لقد أتيت بالأمانة … و حين فتحها، تراءت لفافات نقود في حجم يشبه صفوف الكتب …
ـ ما هذا؟
* هذا مبلغ مستحقاتنا لدى صندوق “الكنام” …
ـ كم المبلغ؟
* مائة و خمسون ألفا و ستمائة و ستة و ثمانون دينارا و 750 مليما
ـ و ماذا سأفعل بها؟
* تتسلمها مني بصفتك آمر صرف المؤسسة … و قبل ذلك تمضي لي على وصل استلام، و هاهو !
و حصل مزيج من الارتباك و اللغط الجماعي و الدهشة و بعض الابتسام … فلا أحد منا كان بإمكانه لمس تلك النقود، بمن فينا المدير العام، إذ أن شغلا حسّاسا كهذا لا يختص به سوى القبّاض المخوّلين قانونا لذلك … و قابض المستشفى المركزي أنهى عمله منذ الثالثة ظهرا و نحن وقتها على مشارف السادسة !
و بعد لأي و صخب و نقاش طويل و محاولات إقناع و إقناع مضاد دامت ما يزيد عن الساعة، استقرّ الرأي على أن يبقى المبلغ الكبير في عهدة حامله حتى صباح الغد موعد فتح قباضتنا … في مكتبه، في بيته، في خزانة ملابسه لا يهمّ … المهمّ أن لا أحد منا تشجّع بقبول المسؤولية الخطيرة، و صار الموقف مأزقا بحق … و في النهاية ترجّيناه ـ حمادي و أنا ـ فقبل الرهان الصعب على مضض و جمع حقيبته و غادر المكان بصمت … و في الساعة الأولى من صباح الغد، كانت العهدة في “كوفر” القابض، و الوصل الممضى في يد صديقنا الذي أخيرا تنفس الصعداء و طلب يوما للراحة …
فقد كان محتاجا لكي يعود إلى بيته و ينام قليلا … إذ لم يغمض له جفن طوال الليلة الماضية …
رحمك الله صديقي الغالي … و عوّضك خير تعويض عن مرضك الأخير الطويل الذي حرمنا منك سنوات قبل أن يحرمنا الموت … و أخلص تعازيّ إلى ابنتك و ابنتنا هدى و شقيقتيها و أمّهنّ الفاضلة … و إلى كل الذين أحبّوك فأحببتهم و عاشوا معك أحلى السنوات و أغناها رغم بساطة عيشك …