منبـ ... نار

ويل لتونس من التونسيين !

نشرت

في

لا أريد أن أكتب نصا حزينا ولكن بلادي تصر أن تبث فينا الحزن في كل مرة. في العام الماضي والوضع الوبائي والاقتصادي شبيه بما هو عليه الان. كان الأمل في اللقاح والمرور بسلام من فترة وبائية صعبة تدهورت خلالها حال التونسيين غير الموظفين والذين لا يتقاضون رواتبهم من الدولة، منهم العمال والفاتحون لمشاريع واعمال حرة وأصيب عدد كبير بالوباء وأغلبية موتى الكورونا كانت من نصيب من تقدموا في السن.

وأذكر جيدا كيف كنت بصدد التحضير لأطروحتي كمثل هذا اليوم واسترجعت المثل التونسي الجميل الذي يستدعي الأمل في الأزمات قلت يومها:”لعل فيها خير” هاني في الدار باش نزيد نركز في الخدمة…

<strong>د أمل الهاني<strong>

كان الوضع حينها في انخفاض نسبي لعدد الإصابات كما عدد الوفيات، و كانت تباشير الأمل تفوح في أرجاء الوطن. كتبت آنذاك نصا عن أهمية التقدم العلمي وضرورة تشغيل الكفاءات العلمية سيما وأننا من المتميزين والناجحين في المجال الطبي، شهادة يعترف بها الداخل والخارج التونسي. كان نصي نقدا لسياسة هذا البلد الذي يهمش الطلبة والدكاترة والباحثين ويدفعهم للهجرة والرحيل بحثا عن كرامة معنوية ومادية لأن العالم والباحث لا يجد هنا قيمة ولا عمل فكأنما منّ عليه الله بحب البحث والاجتهاد ليجازى بصفعة مدوية تنذر بتعاسة هذا المحيط المدمّر للواقع وللحلم.

لا أريد أن أكتب نصا حزينا ولكن الوضع فعلا حزين. وأنا أستذكر كل ذلك وجدت أن الوضع لم يتحسن بل ازداد كارثية وازداد ألما… اليوم نحن البلد الأول عربيا وإفريقيّا في نسب الأموات بسبب الكورونا، والدولة،,نفضت يديها من كل شي,، في السنة الماضية أعلنت الحجر العام ووزعت منح بـ200د للعائلات المعوزة فحصل البعض عليها والبعض لم يحصل على مليم واحد فيما تحصل بعض الميسورين على مبلغ المسعدة هذه!

عمت الفوضى وانفلتت زمام الأمور وتذمر الناس من هذه المنح الضئيلة التي لا تسدد ثمن إيجار بيت، برغم الاقتطاعات الآلية المجحفة من أجور الموظفين والمتقاعدين والمساعدات الدولية والتبرعات الاتية من شخصيات ثرية ومشهورة. مليارات الدولارات التي عبأت خزينة الدولة، ولغرابة الأمر لم يتغير شيء!، فبالكاد جهزت المستشفيات باللوازم الطبية والوقائية وهي الأخرى على حافة الفقر والحاجة، ولعل وسائل التواصل الاجتماعي كانت خير وسيط اخباري بما يجري في أصقاع البلاد، فبغض النظر عن هذا الجهاز “الجاسوسي” العالمي الضخم، الذي يعرف عنا كل كبيرة وصغيرة، إلا أنه كان ذا فائدة في زمن الثورات وحرية التعبير عن الرأي، فأشرطة الفيديو التي يصورها عامة الناس في المستشفيات والمنازل والشوارع وينشرونها خاصة على الفيسبوك مشفوعة بشهادات حية عن معاناتهم الإهمال والاقصاء والظلم، كانت نبضا صادقا خاليا من التنميق الإعلامي والنقاشات المزيفة، نبضا آتيا من عمق هذا الواقع الشعبي المرير الذي يعكس إدارة سياسية فاشلة تعاقبت علينا عقودا تلو أخرى، كشفت ضعف الدولة وفشلها الذريع في بناء مؤسسات صلبة قادرة على إدارة الأزمات.

 لا أريد أن أكتب نصا حزينا ولكن الواقع محزن ومخز… اليوم استذكر ما مرّ وأتأمل ما يجري فازداد حزنا. ضحايا بشرية تقع فريسة للوباء والمصحات فارغة من أسرة الإنعاش ومن أجهزة التنفس، الموت يحصد والدولة عاجزة عن إنقاذ مواطنيها، قال لي طبيب ذات يوم، “فما ناس ماهياش متع موت”، لا أريد أن أذكر ولكن المشاهد تنهمر أمامي، تتراكم، أصبح للخوف أيضا حيز كبير في نفوسنا، فقد ولى عصر الطاعون، عصر حصد الضحايا دون شروط مسبقة، فاليوم يأتيك خبر ضحايا الكورونا من أعمار ومستويات صحية مختلفة فصغير السن معرض للموت و ذو الصحة الجيدة معرض كذلك…

 ومن المضحكات المبكيات أن هذه الكورونا قد أفرزت سلالات عديدة وأصبحنا نتحدث عن المتحول الهندي والإفريقي والبرازيلي والبريطاني وهلم جرا من الفيروسات المتحولة، وصراحة إن كلمة متحول بالذات تربكني فأهوائي السريالية وخيالي الغرائبي يرمي بي إلى عالم من البشر المتحول كمصاص الدماء وزومبي آكل البشر وأجساد أخرى هجينة عادة ما تضمر شرا وشراسة، وها أنني اليوم أعيش زمن المتحولات الفيروسية التي لا تقل شرا ولا شراسة عن الكائنات اللاواقعية والافتراضات الخيالية.

 وحقيقة أنني لا أجد إجابة واحدة ولا كافية عن سبب المتغيرات الطارئة والمفاجئة لما يجري في الأرض عامة وما يطرأ على الإنسان خاصة، فتتهافت التساؤلات وتتقاذفنا الأجوبة غريبة مغتربة عن بعضها البعض، فتخميني العقلاني العاقل يرجح الكفة لميزان العلم وضرورة دراسة الظاهرة في علاقة بالمتغيرات العضوية لسلالات من الحيوان والكائنات المجهرية وآثارها على جنس البشر والجسد البشري المتأثر بعوامل المناخ والطبيعة، ثم ترمي بي حيرتي في مطبات الأسئلة الوجودية في ذهول تام أمام هشاشة الإنسان، محور الأرض، هل هو فعلا محور الأرض؟ ماذا لو خططت الفيروسات لامتلاك الأرض وأصبح البشر لعبة في أيادي لا يعلمها غير الفيروس؟

 أعود إلى رشدي وألقي بنظرة جدية حول الصراعات الدولية وهيمنة الامبريالية المتوحشة ولعبة تصفيف وتصفية البشر وفق مقاييس مصلحة رأس المال، فتتراءى الخطة الشريرة والهدف الاجرامي وراء قتل الضعفاء وكبار السن بتصنيفهم كأعباء مادية وأجساد عاطلة عن العمل ثم في مرحلة ثانية القضاء على أكبر عدد ممكن من البشر كافة لتضخيم رأس المال ولمزيد من التحكم في العالم! ناهيك عن سوق اللقاح ودكاكين المتاجرة بترياق الخلاص … فهذا لقاح فايزر وآخر لقاح استرازينكا وسبوتنيك وكورونافاك والقائمة تزيد من كل حدب وصوب.

 في العام الماضي فُتحت سوق الكمّامات والغاسول الطبي واحتكرت المواد وبيعت بأسعار مرتفعة وتوفرت الآن بأسعار مراقبة نوعا ما وبوفرة وسخاء ياسبحان الله وليس هذا فقط، فقد توفرت كذلك أجهزة الاختبارات السريعة للكشف عن عدوى الوباء وأصبحت تباع هي الأخرى في الصيدليات والكل يدفع لأن المستشفيات العمومية عاجزة عن الاهتمام بالجميع، أجهزة اختبار وانعاش ولقاح ودواء وخدمات… كثير هذا على بلاد انهكتها أيادي النهب والسرقة وضعف ساستها ..

 إذن مرحبا بالمهربين وعاقدي الصفقات المشبوهة، ولتستثمر الشركات الكبرى وتحتكر وتبيع وتقبض الأموال قبل أن تنقبض الأرواح، هنيئا لكم بهذه الصفقة الوبائية الرائعة فأنتم أيضا فيروسات بشرية، استثمار في المرض في الوباء في الإنسانية، توحش بشري وانهيار كامل لمقومات الدولة السيادية، صفقات تدار ولقاح يتقاطر حسب قيمة وحجم الدفع…

 اليوم سمعت، في الرابع من شهر جويلية، أن عدد الموتى قد بلغ 180 من كل الأعمار والأعمار (المقصوفة) هذه المرة ليست بيد الله وحده. بل صار الموت بيد الدولة. بالمرض المنتشر والإهمال، يموت هنا الانسان.

تعليق واحد

صن نار

Exit mobile version