الفعل الماضي في اللغة العربية هو الفعل الدال على حدوث شيء في زمن فات؛ وهو الكلمة الدالة على مجموع أمرين هما: المعنى والزمن الذي مضى وانتهى قبل التلفّظ به، وهناك كلمات لوصف الماضي مثل “هيهات” و”شتّان”. سيبويه عرّف الفعل الماضي بقوله: ” ما مضى فذهب” والزمخشري قال عنه: “وهو الدال على اقتران حدث بزمان قبل زمانك”…هكذا تقريبا عرّف العرب الفعل الماضي وسأقتصر على هذا، واكتفي بعدم الخوض في بقيّة ما كتب عن الماضي في اللغة العربية، فالمجال لا يتسع لذلك لا من ناحية المساحة ولا من ناحية أصل الموضوع.
استمعت الإثنين إلى برنامج تنشيطي بإحدى الإذاعات الخاصّة فسحت فيه المنشّطة أو صاحبة البرنامج المجال إلى المستمعين ليتحدّثوا عن شهر رمضان المبارك وكيفيّة الاستعداد له، وأهم مظاهر ذلك في المدن أو القرى التي ينتمون إليها، وقد كان المتدخلون في أغلبهم يتحدّثون في صيغ الماضي مع تغليب عبارات مثل كنّا وكانت. وحديثهم وأنت تستمع إليهم فيه شئ من الحسرة والحنين إلى فترة بقيت راسخة في أذهانهم وتعلّقت إمّا بالطفولة أو الشباب وبالحيّ والقرية والحومة، وتعلّقت أيضا بالأم والخالة والعمّة والجيران والأجداد والعطّار والجزّار وبائعي الخضر والغلال وأصحاب المهن الكثيرة المرتبطة بالشهر الفضيل، والذين كانوا زينة رمضان وبهجته وفرحته.
حركة في كلّ مكان وأصوات هي الموسيقى في نغماتها ومقاماتها، وجلبة منظّمة مثل العزف السمفوني حيث يعرف قائد الفرقة كل صوت وكل نغمة تخرج من عشرات الآلات فلا نشاز ولا تنافر بينها. حركة في البيت والشارع واستعداد لاستقبال الشهر الكريم في البيت بإعداد وتحضير ما يعرف بعولة رمضان وفي الشارع بعلامات الزينة في الأنهج والطرقات والمحلاّت التجاريّة، وروائح البخور والحلويات الرمضانية بألوانها المختلفة تكتسح بلطف الأمكنة والساحات، وفضاءات للأطفال تزيد من فرحتهم وتبعث فيهم إحساسا لا يمحى من الذاكرة بتقاليد راسخة وجميلة جمال نقاوة الشهر الكريم.
أمّا المساجد فحّدث ولا حرج تتضاعف فيها حلقات التلاوة والتسبيح وتمجيد الخالق سبحانه وتعالى، بعد أن تزيّنت بيوت الله بالأضواء البرّاقة التي توحي للجميع بأنّ أمرا مختلفا يعيشه المسلمون، وفي المساء يعمّ الهدوء وتنزل السكينة على الجميع وتبرز مظاهر التراحم والتآزر وترى الأطفال يتنقّلون بين البيوت حاملين ما تيسّر لهذا الذي يعيش بمفرده ولتلك التي أقعدها الزمن ولعائلة لم تتجاهر بخصاصتها، وموائد الرحمان التي تنظّم هنا وهناك عملا بالحديث النبويّ الشريف (مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا ).
وبعد الإفطار نوعيّة أخرى من الأنشطة ودبيب آخر للحياة في المساجد والأسواق والمقاهي فلا مكان للبغضاء ولا مكان للحقد، انسجام وتراحم وابتسامات على الوجوه وفرحة لا توصف. وأنا استمع إلى وصف هذه الأجواء في المدن التونسية من شمالها إلى جنوبها كل له عادات وكل له تقاليد ورمضان الكريم يجمعها مهما اختلفت ومهما تعددت، إلاّ أن الحديث في جلّه كان في صيغة الماضي . فأين نحن اليوم من كلّ هذا ؟ أين ذهب رمضان الذي ألفناه وعرفناه ؟ أين رمضان الذي كنّا ننتظر؟ هل تغيّر الزمن أم العيب فينا…أسئلة كثيرة ليس لها إجابة حاضرة في الذهن والعقل والقلب والفؤاد والأحشاء والكبد والضلوع…
لكن هذا لم يمنعني من البحث… والغريب أني وجدت الإجابة في التقرير العالمي للمشاعر لسنة 2020 والذي تصدره مؤسسة غالوب الأمريكية لسبر الآراء والذي يفيد أن التونسيين هم ضمن ا لـ 10 شعوب الأكثر توتّرا وحزنا في العالم ، وهذه دعوة للتأمّل في مقولة للفيلسوف اليوناني سقراط ( ستة لا تفارقهم الكآبة : الحقود .. والحسود .. وحديث عهد بالثراء .. وغني يخاف الفقر .. وطالب رتبة لا يبلغها… وجليس أهل الأدب وهو ليس منهم).