جور نار

زمن الصعاليك (2)

نشرت

في

عبد القادر المقري:

هذا في البلاد التي ارتفعت بالجمال قيمة ومبنى ومعنى، منذ عصر النهضة قبل سبعة قرون… أما الأوطان المنحطّة بطبعها فحدث ولا حرج…

في تونس حاولنا مقاومة الرداءة مرة أولى مع ثلاثينات القرن العشرين وظهرت عندنا الرشيدية وتحت السور والشابي… تجاوبا مع موجة عربية أكبر دشنها السوريون ثم سيد درويش ويوسف وهبي وعبد الوهاب وأم كلثوم والأخوين رحباني… وأصبحت آذاننا تصحو على صوت إسمهان وفيروز… دام ذلك عقودا طيّبة زامنتها استقلالات وبناء دول حديثة… غير أن الردّة لم تلبث أن أطلت برأسها شيئا فشيئا ثم بسطت سلطانها بدءا من السبعينات عربيا والتسعينات تونسيا… ورغم فاصل نهوض نسبي عرفناه بين 1980 و1989، فقد زحفت علينا منذ مطلع التسعينات ثقافة سفلية عنواناها الأبرزان “النوبة” و”الحضرة”…

هناك أغبياء كثر، وافقوا ويوافقون المحتالين الذين اجترحوا هاتين القمامتين مع تصنيفهما من ضمن الروائع… ولعبوا وقتها كما يلعبون الآن على وتر الأصالة والهويّة والشعبية والوطنية… فكان أن هجرنا التعلّم والتحديث والمستقبل والأناقة والذوق، وانزلقنا في مهاوي الماضي والألوان المتنافرة ولغة السوقة وأدب المنحرفين وموسيقى الهمج… انقرضت تقريبا من صباح إذاعاتنا أغاني فيروز وصرنا نصبّح على المزود ونمسي على الراب… واندثرت من مدارسنا وبرامج أطفالنا أناشيد مصطفى عزوز ومحمد المرزوقي وونّاس كريّم ومحمود الثامري والسيدة علياء … وحلّت محل ذلك فاطمة بوساحة وجرمانة وبن قمرة وولد نجمة وكافون والشاب الحبيطري وعلي حميدة وباقي الموكب العزيز… لا في المدارس فقط بل حتى في رياض الأطفال حيث يحتفل الصغار ويرقصون على هذه المسموعات…

اختفت الرقابة وتكاسل الرقباء أو جبنوا أو تم إخراسهم لتنفرد القنوات الخاصة بتربية الأجيال الأخيرة… وتحقنها بما لذ وطاب من الوساخات التي كان أصحابها إلى وقت قريب يمكن أن يوقفوا أو يُسجنوا لأقل من ذلك… كل هذا والعائلة كلها نعم كلها تتفرج من 3 إلى 93 سنة في نفس المكان ودون حاجز بين ما يصلح للكبار وما يصلح للصغار… والآن لم يعد ذلك ضروريا بما أن السمارتفون ومواقع التواصل كثفت قصفها وصارت في اتصال مباشر مع الفرد ووعيه وعزلته عن العالم… فخرج لك شواذ دون أن يحس بهم أحد، وطلع عاقون ومجرمون ومغتصبون وإرهابيون في غفلة من عائلات صارت بدورها في خبر كان… وفقدت المدرسة دورها الذي تجول إلى مجرد مصنع للأعداد والشهائد إن لم يكن لكل الطائفة الخطرة المذكورة منذ قليل… استقال الجميع آباء وأمهات ومدرسين ودولة… وأدلى ساسة البؤس بدلوهم في هذا العفن فإذا بأحد وزراء التربية ينحاز جهارا للتلميذ المشاغب ضد معلميه وإدارة مدرسته… وزاد في معركة قذرة بينه وبين النقابة، بأن أسند الارتقاء لعامة التلاميذ هكذا دون امتحانات… وإلى اليوم ما يزال يمد وجهه وتستضيفه القنوات، ليفاخر ببطولاته تلك بوقاحة تحسده عليها محترفات البغاء العلني…

واستفحلت الحال مع إطلالة “ثوريي” الظلام في 2011… لسنوات وعقود كان معظمهم في السجن أو هاربون في عواصم الخارج… ولا تصلنا منهم سوى نداءات ولوائح احتجاج ونتف أخبار ومواقف توحي بأنهم أنبياء مطهرون وبأن الفرج آت على أيديهم المباركة… وكان أن خلت المدينة وخرجوا من القمقم… استقبلتهم البلاد والمنابر والبرلمان والقنوات وجلسنا نستمع بلهفة إلى الغد المشرق الذي لا شك ستنطق به أفواههم… وانتظمت لذلك حوارات وندوات وبلاتوهات تلفزية سياسية متحررة… وكم كانت خيبتنا بحجم الانتظار وسنواته الطوال… فإذا بالأنبياء يتكشّفون عن عناكب وعقارب ومصاصي دماء… وإذا بالباقين من القدامى أنفسهم ينخرطون في السفاهة كما حصل للباجي… وإذا بنا أمام أدب جديد أتعس مليون مرة من الخطاب القديم الذي مججناه… لا، بل صرنا نترحم على أيام لغة الخشب التي كنا نلوم السابقين عليها… فهي على الأقل كانت تغلّف مقاصدها وتراعي (ولو نفاقا) مشاعر من يسمعون…

انفلت العقال فجأة وانثالت على آذاننا ورؤوسنا شلالات الكلام البذيء والشتائم القارحة والتهديدات المباشرة… للخصوم وللمذيعين ولجمهرة المتفرجين الذاهلين من كل هذا، أي نحن… وفي هؤلاء الساسة الجدد، من انتقل من القول إلى العمل… ومن الكلام الشنيع إلى الفعل الأشنع…

ـ يتبع ـ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version