في معالجة ايّ حدث سياسيّ او اقتصادي او ثقافي او رياضي وفي تقديري المتواضع علينا ان نبتعد عن حالتين ..اولاهما الرومانسيّة الحالمة وثانيهما الثويريّة الغبيّة …
والحدث المتصدّر في هذه الآونة الاخيرة هو دون جدل مأساة الاخوة المهاجرين من جنوب الصحراء ومأساة متساكني مدينة صفاقس من هذا التدفّق الرهيب على مدينة دون سواها …انبرى الجميع في مواقف من فصيلة زيد الماء زيد الدقيق، كلّ فصيل يرى الاشكال من زاويته سواء كانت رومانسيّة او ثويرية …ومع تفاقم الوضعية والوصول بها الى مشاحنات وتصادمات _ وضارب ومضروب _ تعالت نفس الاصوات … منهم من يرى الامر من زاوية نعم لمواطنين يدافعون عن احيائهم وعن اطفالهم وعن خبزهم اليومي في ظلّ وضع اقتصادي واجتماعي متدهور للغاية ومنهم من انحاز الى الجانب الانساني واصبح مندّدا بمثل هذه الممارسات…
لكن دعونا ننظر للامر بمنظار واقعي بعيدا عن العواطف الرومنسية او المواقف الثويريّة لبعض الثقفوت … هؤلاء المهاجرون هل كان لهم ان يهاجروا لو لم يكونوا هم ايضا ضحايا لحكّامهم ..وبالتالي للفقر والجوع ؟؟ هم وجدوا منفذا في تونس لواقع افضل سواء كبلد عبور او بلد استقرار ..اليس هذا هو تماما ما يفعله التونسيون سواء الحارقون منهم او المهاجرون من كفاءات علمية طمعا في واقع افضل هم ايضا …؟؟
من زاوية اخرى من حقّ متساكني ايّة مدينة ان يندهشوا في البداية من تلك الهجرة المكثّفة لمدينتهم دون سواها .. ثمّ يصرخوا في مرحلة ثانية وينددون .. ثمّ يمروا الى مواجهة اولئك المهاجرين ؟؟ بعيدا عن الرومانسية والثويرية اعتبر ما حدث من مواجهات بين عديد المتساكنين والمهاجرين وما خلّف من اضرار امرا منطقيا للغاية وهنا انا لا ابرّر ولكن ها انا افسّر ..
لنتطارح السؤال المفصلي .. لماذا ومتى تقوم الاحتجاجات ؟؟
في المطلق وفي كلّ حركة احتجاجية وفي كلّ اصقاع الدنيا تقوم الحركات الاحتجاجية بسبب عدم رضاء المواطنين على سياسة الحكّام ..وهذه الاحتجاجات لم ولن تخلو يوما من المندسيّن سواء من اجل اجندة سياسية او من قبل لصوص ومجرمين يغتنمون مثل تلك الاحداث للسرقة والنهب والحرق والتدمير …الم يقع هذا في احداث جانفي 2011 ؟؟ الم يقع هذا في الاحداث الفرنسية اخيرا بعد مقتل الشاب الجزائري على يد عون شرطة ..؟؟… الحركات الاحتجاجية عبر التاريخ هي ردود فعل على واقع ما .. تصوّروا فقط بلدا يكفل لمواطنيه الحزم و العدل والرفاهة والامان .. هل يحدث فيه حركات احتجاجية ؟؟ هل سمعتم وعلى سبيل الذكر فقط ببلد اسكندينافي وقعت فيه حركة احتجاجية …؟؟
اذا اختلّت موازين الدولة المفصلية في بلد ما والتي اراها مجسّدة في الحزم والعدل والرفاهية والامان اصبح قيام الاحتجاج الشعبي امرا حتميا ..واعيد القول ليس هنالك حركة احتجاجية تخلو من المندسّين بكلّ اصنافهم باستثناء تلك التي تنظمها احزاب او منظمات يخضع فيها المحتجّون الى الانضباط والانصياع لقواعد واوامر يحدّدها المنظّمون .. اعود لاقول ما حدث في صفاقس في قضية اخوتنا المهاجرين من جنوب الصحراء ومتساكني المدينة امر منطقي للغاية في ظلّ فقدان حزم الدولة ووضوحها، وقتها يتحوّل المواطن الى عون تنفيذ _
ليس معنى هذا انّه يحقّ له ذلك في المطلق ولكن هو يضطرّ إليه ما لم تقم الدولة بدورها اي بواجبها ومن ثمة نفهم المقولة: الحقوق تُفتكّ ولا تُعطى … نعم كان هنالك تصريحات ومواقف للسلطة ولكنّ مثل هذه المشاكل الخطيرة لا تُحلّ بالتصرحات والخطابات بل بالفعل… كلّنا نتذكّر جيّدا مثلا ما حدث في ثورة الخبز سنة 84 وما خلّفته من مآسي وضحايا ..ويوم خرج الرئيس بورقيبة بذلك الموقف الشهير (نرجعو كيف ما كنّا قبل الزيادة) توقفت الاحتجاجات واُغلق ملفّ الخبز ..يمكن ان نعدّد عشرات الاخطاء التي وقع فيها الرئيس بورقيبة ولكنه كان حازما عندما وجب الحزم، وحكيما حين وجبت الحكمة …
اختم بالقول وحدها الدولة قادرة على فتح ملفّ مهاجري جنوب الصحراء ودراسته بعمق، حيث لا اهانة فيه لايّ شقيق افريقي ولا مجال فيه ايضا للمسّ من سيادة تونس وكرامتها .وحرمة ترابها وحدودها …الاشقاء والاصدقاء على العين والراس، ولكن الامن القومي لتونس وللتونسيين قبل الجميع وفوق الجميع …