يقول الكاتب والفيلسوف الفرنسي بول فاليري إن التربية لا تتوقّف على الطفولة والمراهقة، كما أن التعليم لا يقتصر على المدرسة. يكون محيطُنا طيلة حياتنا هو تربيتنا ومُربّينا الصارم والخطير في نفس الوقت.
عرَفتُ رنا مسلّم خلال هذه الصائفة بمناسبة إحرازها على شهادة الباكالوريا في شعبة العلوم التجريبية من المعهد النموذجي بسوسة ومناقشة مسألة توجيهها الجامعي معها ومع والديْها الكريمين… قبل أن يتبيّن لي أن رنا المتفوّقة دراسيا أنهكها مرض نادر في سن الــ 16 سنة ذو علاقة بتصلب الشرايين ويُصيب – من نكد الحظّ- شخصا واحدا على مليون شخص وفي 99 بالمائة من الحالات، يكون سنّ الشخص المصاب يفوق الــ 45 سنة.
رنا لم يُقعدها المرض ولم تستسلم لأزماته وأوجاعه وآلامه، كانت تنقبض عضلاتها ولكن ذهنها يظلّ متّقدا وجميع حواسّها متيقّظة ورغم الشدّ العصبي الخانق ظلت روحها متوهجة ومعنوياتها من حديد صُلب في مستوى تصلّب بعض عروقها.
ما يشدّني في قصة رنا مسلّم ثلاثة أشياء : البسالة التي واجهت بها مرضها أولا وتوصّلها إلى تأليف كتاب باللغة الفرنسية تحكي فيه عن تجربتها المتفرّدة التي رغِبتْ في تعميمها لطرافتها وقيمتها المُضافة المحتملة ثانيا، واستنتاج بعض الدروس التي قد يكون من المفيد تقاسمها معكم ونحن مُقبلون على سنة دراسية جديدة لكل منا فيها أمل ورجاء و انتظارات ورهانات ثالثا.
أولا : تقول رنا في نصّها الفرنسي”نعم أحب الحياة وأقضمها بملء اسناني. ومن أجل الحياة أبتدع ألحانا أرقص على أنغامها، أرقص… وأرقص إلى حد يجعلني الانتشاء أطير في الأعالي. أحب الناس الفرحين والسعداء لأن سعادتهم مُعدية لمن حولهم. يُخيّل إليّ أن حياتي هي رواية حب ومستقبلي مسبحة نجاحات. يحدث أن تنتابني نوبات وأوجاع لكن لا يسكنني وعي المرض. لا أنا لست مريضة.
… أنا لا أكتب لأشكو أوجاعي وألعن الطبيعة المتمردة للمرض الذي أعانيه وإنما أكتب لمحاولة إيصال هذه الرسالة : كل شيء مرتبط بشجاعتنا وبقدرتنا على الصبر والتحمل وبإدراك مواطن قوّتنا في نهاية المطاف. المعنويات هي بالتأكيد عامل أساسي في مواجهة خليط التعقيدات الصحية. “
يتضح من خلال هذه الشهادة أن رنا – إضافة إلى عامل مجهود الأطباء والممرضين ووقوف عائلتها وأصدقائها إلى جانبها- بذلت مجهودا ذاتيّا خارقا وجنّدت كامل طاقتها الذهنية للتغلب على مرضها ومغادرة المستشفى أو المصحة في كل مرة بأخف المخلفات.
رنا تحدّت مرضها ونسّبت تداعياته وأقبلت على الحياة والفرح والمستقبل بروح بطولية عالية… وذهبت إلى الباكالوريا بحدّية مقاييسها وصرامة إصلاح اختباراتها خفيّة الاسم وظروف أصحابها لتُحرز معدّلا متميّزا وتلتحق بمقاعد الجامعة في سوسة. (كان من الممكن جدا أن تتابع رنا دراساتها الجامعية بنجاح وتفوق بالمرحلة التحضيرية للغات اختصاص فرنسية بالعاصمة نظرا إلى مستواها المتميّز جدا في هذه اللغة، لكن ظروفها الصحية ألزمتها بعدم مغادرة مقر إقامة والديها.)
ثانيا : ليس من السهل “التجرّؤ على وُلوج غابة الكتابة والنشر” في سن مبكّرة حتى وإن تعلق الأمر بباكورة شبابية غضّة ونضِرة لكنها تفتح الباب مُشرعا أمام إنتاجات أكثر عمقا ونضجا وطول نفَس. فالكتابة المُعدّة للنشر هي بَوْح محفوف بمخاطر عديدة منها عُريُ المشاعر وفداحة الانكسارات وكسر أفق الانتظار عند البعض والإفلات من قبضة المجاملات والملاطفات المكبّلة… وخاصة الذهاب طوعا إلى مقصلة تقييم الآخر ومقارنة الأحجام وإدخال النص طاحونة التعيير.
ثالثا : إن أهم الدروس التي بإمكاني شخصيا استخلاصها من مسيرة رنا مسلّم (والتي أوجّهها خاصة إلى الأولياء) هي التالية :
عندما يكون البناء الأساسي للتلميذ صلبا (أي الحساب ثم الرياضيات فيما بعد وكذلك اللغات) يكون باستطاعته حتما التفوق دراسيا في أية شعبة يلتحق بها بعد تدخّل الميولات الخاصة والفردية لترشيح الكفة لفائدة هذا المسلك أو ذاك.
المطالعة النّهمة والمكثفة والتدريب على الكتابة رصيدان هامان مساعدان على النجاح والتألق.
العوامل الموضوعية المُعيقة (المرض، الحاجة، البيئة، كفاءة المدرّسين، المناخ العلائقي في العائلة وفي الوسط المدرسي…) تتكسّر على صخرة الإرادة الذاتية الصّلبة والطموح العارم وجنون النجاح.
أنت من ضمن الــ 95 % من التونسيين غير الأثرياء وبالتالي ليس لديك من رصيد سوى دراسة أبنائك ونجاحهم، فلا تستسلم لقهر الظروف وجمر استخدام عقاقير الدروس الخصوصية…وإن النجاح في ظروف العَوْز هو فعل مقاومة.
إحذروا فساد منطق عديد الأولياء (خاصة الآباء) الذين يصرّحون بأنهم يقضون وقتا مطولا بالمقهى هروبا من هرج الأبناء ومرجهم وواجباتهم الدراسية. الاستثمار في دراسة الأبناء ليس فقط أموالا تُنفق في دروس الدّعم والكتب الموازية وإنما أيضا في حجم الوقت الذي تخصصه بأريحية لهم ولأسئلتهم (وأنت منزوع هاتفك المحمول).
أن يكون ابنك أو ابنتك على مستوى عال في الرياضيات والفيزياء واللغة العربية واللغات الأجنبية وباقي المواد الدراسية أمر مهم جدا، ولكن لكي تكون “الخلطة” ناجحة لا بد من توفر بهارات أساسية أخرى مثل التدرب على حسن الكلام واكتساب مهارات الإقناع والانخراط في مجموعات تشتغل على أهداف نبيلة والتسلّح ضد ذئبيّة الشارع و تثعلُبه.
بقية مشوار دراسي كما تطمحين يا رنا وسنة دراسية وجامعية بكل ألوان التفوّق والاعتلاء لجميع بناتنا وأبنائنا.