من المفارقات العجيبة التي نعيشها في بلادنا في عهد الثورة، أنّ المواطن الذي إبتهج في البداية باسترجاع حقّه -المسلوب منذ عقود- في الانتخاب و الاختيار، أصبح بعد سنوات قليلة يهجر مكاتب الاقتراع، أو ينتخب أشخاصا لا يعرف عنهم غالبا إلا النزر القليل من المعلومات، أو أنه ينتخب الأشخاص الذين يبدون له “الأقل سوءًا” من منافسيهم… و قد حصل هذا الأمر في الانتخابات التشريعية، وحصل أيضا في الإنتخابات الرئاسية…
واليوم و بعد سنة من الانتخابات التشريعية و الرئاسية لسنة 2019، ازداد غضب المواطن على السياسيين، و اتسعت دائرة المغضوب عليهم لتشمل علاوة على نواب الشعب، رئيس الدولة، و حكومة هشام المشيشي … كما أن السلط الثلاث فقدت بدورها الثقة في ما بينها، بحيث صارت البلاد كسفينة بلا ربّان تتقاذفها أمواج التجاذبات و رياح الخصومات … و للتذكير فإنّ النائب عن حركة النهضة محمد القوماني كان من الأوائل الذين جرّحوا في التشكيلة الحكومية التي اقترحها هشام المشيشي و اعتبرها “أقل كفاءة و استقلالية من الحكومة السابقة، مضيفاً أن أسماء الوزراء المقترحين هي لمقربين من رئيس الجمهورية قيس سعيد، و هو ما يتنافى مع معيار الاستقلالية الذي وضعه المشيشي كأساس لتشكيل حكومته، مؤكدا : “نحن أمام حكومة الرئيس، الذي بعدما كلف المشيشي بتشكيلها تدخّل في تكوين و اختيار أعضائها”.
كما ذهب النائب عن ائتلاف الكرامة محمد العفاس إلى اعتبار أن الرئيس قيس سعيد نفّذ انقلاباً على الشرعية و على المشهد السياسي الذي أفرزته الانتخابات التشريعية، بما يمنح رئيس الجمهورية احتكار السلطة من رئاسة الجمهورية إلى رئاسة الحكومة … أما الرئيس قيس سعيّد، فقد أظهر عداءه للأحزاب جميعها، و ميله لفئة الشباب البعيد بطبعه عن التنظيمات الحزبية، رافِعًا شعار “الشعب يريد” و مُحَرضًا بشكل أقرب للتصريح منه للتلميح على هجر الأحزاب و الانطلاق في بدائل هُلاميّة غير واضحة المعالم و كأنّ الرئيس يتبنّى مقولة “من تحزَّب خانَ” للراحل العقيد معمر القذافي رحمه الله …
اما رئيس الحكومة، فإنّ علاقته برئيس الدولة هي علاقةُ فتور ظاهر، فبعد أن فرض قيس سعيّد عددا من الأسماء لتولي حقائب وزارية على المشيشي، مضى قُدُمًا و إنتصر للمتعفّف عن وزارة الشؤون الثقافية وليد الزيدي و لوى ذراع رئيس الحكومة و أجبرهُ على تسميته على رأس الوزارة … استغلّ المشيشي مناسبة لقاء رئيس الدولة بوزير العدل، و بثّ شريط فيديو في مفتتح أكتوبر المنقضي منع فيه وزراءه من التّعامل مع رئيس الجمهوريّة إلاّ باِستشارته و علمه و إذنه …
و أمام هذا “التخلويض” الذي يقع يوميا في هرم سلطات البلاد، لم يعد للمواطن أيّة ثقة في من يتولّون إدارة الشأن العام للبلاد، برئيسها و حكومتها وبرلمانها … فالبعض إصطفّ إلى جانب الرئيس، و البعض إلى جانب رئيس الحكومة، و البعض إلى جانب البرلمان.. فيما إختار آخرون إسقاط السقف على الجميع و حشر النواب و الوزراء و الرئيس في سلّةٍ واحدةٍ عملا بالمثل التونسي :” الشكارة و البحر” !