على الكثيرين من ساستنا أن يشكروا الكورونا على القدوم إلى تونس و التربع فيها و المساهمة في تنزيل الأرقام النازلة بطبعها … أي تماما كما تفعل الحرائق ببعض المخازن فتتلف دفاتر و تخلط معطيات و تطمس سرقات و تُخلي مسؤوليات … لهذا صرنا من الرقع القليلة في العالم حيث لا تناسب بين أداء من يحكمون و بين مؤشرات شعبيتهم في عمليات سبر الآراء …
يمكن أن يضيف الواحد عوامل أخرى في تفسير هذه المفارقة، كعدم نزاهة مكاتب السبر هذه، أو كإصابة شعبك بفيروس في الدماغ جعله يرى الجمال في مواقع القبح … يمكن … و في أثناء ذلك، تحدث غرائب و عجائب منها ما أعلنت عنه رئاسة الجمهورية أمس بكامل الثقة و راحة البال … و يتمثل الإعلان في تقديم سفراء دول صديقة (أو هكذا نعتقد) أوراق اعتمادهم لرئيس دولتنا في موكب استقبال خشبي باسم صامت بارد من التي تعوّدنا رؤيتها مذ دخلت التلفزة إلى تونس …
في العادة، لا يمثل هذا الموكب حدثا في حد ذاته … فهو إجراء شكلي تقوم به الدول المرسلة، و هو إجراء شكلي تقوم به الدولة المرسل إليها، و هو إجراء شكلي يقوم به تقنيو تلفزتنا و هم يتثاءبون كامل الوقت … و لكن ما لفت الانتباه هذه المرة، أن جميع السفراء و عددهم 14 وقع التنصيص على أنهم مقيمون في عاصمة أخرى غير عاصمتنا … الذي في الجزائر، و الذي في الرباط، و الذي في القاهرة، و الذي في أنقرة، و الذي في باريس، و الذي في روما، و الذي في أثينا، و الذي في أديس أبابا (!) و حتى الذي بقي مقيما في عاصمة بلاده كما فعل سفير أرمينيا …
و بمتابعة الخبر على صفحة رئاسة الجمهورية بفيس بوك، تابعنا معه ردود فعل الناس و فيهم كثرة اندهشت من هذا النشاز … و لكن، بما أن الرئاسة في بلادنا كانت دائما منصب الحظ الأعلى، فيخرج لها دائما مدافعون و متطوعون و مبررون و محامون لم يكلّفهم أحد على ما نعلم … و هؤلاء مشكورين أفادونا بأن هذه الوضعية تقع مع البلدان التي لا جالية لنا مهمة فيها، و لا تبادل اقتصاديّ بيننا و بينها … فيما عقّب آخرون ساخرين بأن هذه البلدان لا تولينا أهمية تذكر على الخارطة، لذلك تكتفي بإلحاقنا إلحاقا لدى إحدى سفاراتها القريبة منا … كما تفعل تونس حين تعين سفيرا واحدأ لأربعة خمسة أقطار إفريقية دفعة واحدة، منها سفارتنا في داكار، و التي تجمع تقريبا كامل بلاد إفريقيا الغربية الغنية بمناجمها و غاباتها و أسواقها البكر الكثيفة السكّان !
و دون أن ندخل في تفاصيل مثيرة أخرى و تساؤلات قد تطير النوم من عينيْ أي عاقل، نبقي فقط على تساؤل وحيد: لماذا نفتح سفارات بالخارج، و لماذا يفتحون عندنا سفارات؟:
ما تفعله الدول التي تحترم نفسها، أن الدبلوماسية تحتل المرتبة الأولى بين جميع الأنشطة، و وزارة الخارجية هي وزارة السيادة الأهمّ و ربما الوحيدة هناك … و في الولايات المتحدة مثلا، يسمى وزير الخارجية بـ “كاتب الدولة” و ماسكها يحتل المنصب الثاني في الدولة بعد الرئيس، و قد لمع فيها نجوم أكثر حتى من رؤساء أمريكا أنفسهم … جميعنا تقريبا نسي “جرالد فورد” و لكن لا أحد ينسى هنري كيسنجر، و لا جيمس بيكر، و لا كولين باول و لا كوندوليزا رايس … و رغم اختلاف الأنظمة و البلدان، فلطالما ترددت على مسامعنا أسماء من فئة “كوسيغين” و “لافروف” و “شيفرنادزه” و “بوتفليقة” و “وليد المعلم” و “عمرو موسى” و معظم وزراء خارجية مصر الذين يتحولون في الغالب إلى أمناء للجامعة العربية، و فيهم من أخذ الأمم المتحدة كبطرس غالي …
الدبلوماسية عندهم هي الحرب المعلنة دفاعا و هجوما، و لكن من غير سلاح … أي هي معارك حياة أو موت، و كل عملها هو الترويج لمصالح بلدها و تدبير موارد و أسواق تزيد كل يوم و لا يمكن أن تنقص، و إن نقصت أو هُددت بنقص، يمكن أن تصبح الحرب بالسلاح و المدفع و حاملة الطائرات … و طبعا هذا الحل الأقصى لا تملكه إلا كمشة من الدول العظمى، و لكن البقية يدخلون في أحلاف و مجموعات ضغط و إدارة ماهرة لأي نزاع في المنتظم الأممي أو في أية محفل دولي مهم …
و ما يسري على وزراء الخارجية يجري على السفراء بل ربما بأكثر حرصا و عملا يوميا … كل سفارة مفتوحة ببلد آخر هي عبارة عن موارد متجددة لاقتصاد بلدك، و أسواق متسعة لمنتجاتك، و فرص عمل لأبنائك، و أرقام تضاف لسياحتك، و أسعار أفضل لصادراتك و وارداتك، و صوت يضاف إلى المصوتين على مواقفك في أية أزمة أو حملة، و جسر مودّة و خدمات بين مغتربيك و وطنهم الأمّ …
هذا ما تفعله الدول التي تحترم نفسها، و لا أقول الكبرى أو الصغرى فكلّ حيث يضع نفسه …
أما تونس، فيبدو أن مهنة السفير لا تتعدى شيئا من أربعة: إمّا وزير مكسّر نبحث له عن مخرج مشرّف، أو مسؤول ناجح ننوي إبعاده بهدوء، أو غنيمة و مكافأة نوزّعها على الأنصار و الأصهار، أو ترضية لهذه الجهة أو تلك حتى نقايضها بموقف أو نقوم بتحييدها …
و لا يهمّ عندها إن كان ممثلنا يفهم في تلك لخطة أو لا يفهم، يحذق لغة تلك البلاد أو يترجمون له، و لا يهمّنا ما يتقاضاه أولئك السفراء و القناصل العامون و القناصل و باقي الجيوش التي تأكل أكواما من عملتنا الصعبة الشحيحة …
المهمّ أن يؤدي هؤلاء مهامهم الجسيمة الجليلة التي كلّفتهم بها الدولة التونسية بكل أمانة و إخلاص … و هي: التهنئة بالأعياد الدينية و الوطنية، تمثيل دولتنا في التعزية كلما ماتت شخصية من بلد الإقامة، استضافة منتخب الكرة كلما لعب هناك دون نسيان طبخ الكسكسي لكامل أعضاء الوفد .
و أيضا … طمأنتنا إلى أن “جميع أفراد جاليتنا بخير” كلما حدث زلزال أو فيضان أو قصف مكثف ببلاد ما… حتى من قبل أن ينتهي التحقيق و تصدر معطيات رسمية عن سلطات تلك البلاد !