إحدى صحف الساحة نشرت الأسبوع الماضي تحقيقا حول ثروة طائلة نسبتها لأقوى رجل بالبلاد في العشرية الأخيرة … خطأ يحتمل الصواب، أو صواب يحتمل الخطأ، أو خطأ يحتمل الخطأ لا يهمّ … و قد كان منتظرا أن تنشر نفس الصحيفة جزءا ثانيا من الموضوع، و انتظره الناس بفارغ الصبر كما يقال … و لكن جاء اليوم الموعود، و نكثت الجريدة عهدها و لم تنشر باقي التحقيق …
قبل هذه الحادثة، قامت وزارة الصحة العمومية بإعفاء د. نصاف بن علية من عضوية اللجنة العلمية لمكافحة كورونا … بعد أن كانت لمدة ثلاث سنوات (أي منذ ظهور الفيروس عندنا) رئيسة لتلك اللجنة، ثم منسقة عامة للبرنامج الوطني لمقاومة الجائحة، ثم ناطقة رسمية باسم الوزارة، و ذلك رغم تتالي الوزراء و حتى الحكومات … و اتضح أن قرار الإعفاء لم يكن يعني إقصاءها من أعمال لجنة كورونا، و لا من الحضور فيها … لا، بل من المناقشة و الكلام و التعبير عن رأيها.
قبل هاتين الواقعتين و بعدهما، عادت إلى السطح شيطنة كل من يعترض أو يعارض … كل الصحف الناقدة التي ظهرت بعد 2011 أغلقت و اندثرت لشتى الأسباب … القنوات الإذاعية و التلفزية تخففت من برامجها السياسية إلى أقصى حد، و اختفى مثلا “اللوجيك السياسي” (و فيه تقليد ساخر لرموز الحكم الجدد) و حلّت محله برامج الشقلبة على بساط متحرك، أو التباري على امتصاص قطعة مثلجات معلقة في الهواء، أو شرح طريقة اشتغال خلّاطة كهربائية يوصلها ساع إلى منزلك دون أن تتحمل مصاريف الشحن …
أما المعارضة، فالتونسي تعوّد من عشرات السنين أنها رجس من عمل إبليس … و صار لديه استعداد فطري لأن يصدق بأن الحكّام يعملون ما بوسعهم لخير البلاد، و أنه لا يمنعهم عن ذلك سوى معارضين حاقدين مموّلين من الخارج و فاشلين في كل شيء و لا يصلحون بفرنك … لذلك سارت سلطة ما بعد 14 على نفس درب من حكموا تونس سابقا، فأكل اليسار على رأسه ما أكل من 2012 إلى 2019 … ثم حين سكت أو تشتت أو انقرض، جاء الدور على عبير موسي …
هذا دون الحديث عمّا عاناه الاتحاد العام التونسي للشغل و يعانيه من هجومات مادية و لا مادّية توصل أصحابها إلى المساءلة القضائية في البلدان المتمدّنة … فهو اتحاد الخراب، و الشرذمة الضالّة، و هاوي المطلبية المشطّة، و معطّل المسيرة، و الخارج عن النصّ النقابي، و المتدخّل في ما لا يعنيه … و هي تهم سمعها السامعون أيّام حبيب عاشور، و الطيب البكوش، و إسماعيل السحباني، و عبد السلام جراد، و حسين العباسي و اليوم نور الدين الطبوبي …
يتباكى كثيرون من ظلم النظام السابق و استبداده الذي يراه حكّام اليوم أفظع استبداد في التاريخ …
و لكن على الأقلّ كانت الأفواه لا تتكلم و لكنها تأكل و تشرب … و الأقلام لا تكتب هجاء سياسيا و لكنها كانت تُمضي على عقود امتلاك مسكن و سيارة و حاسوب عائلي … و النقابات لا تُضرب كثيرا، و لكنها كانت تحصل على مطالب نظرائها في كل مفاوضة ثلاثية السنوات … و الصحافة لا تهاجم بكثرة من يحكمون و لكنها حين تجرؤ و تتحمّل نتيجة جرأتها، تجرف معها دفعة من كبار مسؤولي البلاد …
النظام كان متسلّطا، أي نعم، و لكنه كان شاعرا بواجبه و يقوم بالحدّ الأدنى منه على الأقلّ … و يبني المستشفيات و المدارس و المناطق الصناعية و السياحية، دون حاجة إلى اعتصام كامور يطالبه بذلك …
اليوم أنت مع نظام لا ينتج و لا يدع من ينتج، و لا يأتي صالحا و لكنه يرفض من يدلّه على الطريق الصالح، و لا يلبّي حاجة و لكنه يتطيّر من كل من يطلب منه أية حاجة …
و يأتي بعد ذلك من ينفخ صدره و يقول تلك الجملة المعادة: “حرية التعبير هي المكسب الوحيد الذي حققته الثورة” … اذهب، أنت و تعبيرك و ثورتك و مكاسبك الهواء … اسكت و لا توجع رأسي مجددا … ماذا؟ أنا أمنعك من التعبير عن رأيك؟ … يا سيدي ليكن، أمنعك و أمنع جدّك السابع عشر …