تحدثنا المحطة الماضية عن فلتات المسلسلات التلفزية في دولة بلا رقيب ولا حسيب… وعن الحرية التي لا يأخذها عندنا سوى المنحرف والشاذّ والمنبتّ والمتعجرف… هذا عن المحتوى، فماذا عن المستوى؟
فنيا… مسلسلاتنا الحالية لا ترقى في معظمها (وبكامل التسامح) إلى ما ينجزه طلبة الفنون السمعية البصرية في مشاريع ختم دروسهم … أي ذلك العمل التطبيقي الذي يرفقه الطالب برسالته النظرية… وأذكر أننا في السنة الرابعة ورغم أننا لم نكن مطالبين بشيء من هذا في ذلك الوقت، إلا أن زميلنا يونس الزمني (وقد أصبح في ما بعد صحفيا وشاعرا على غاية الرقيّ) شاء أن يجتهد ويقدم في مادة السينما محاولة صغيرة في التصوير والإخراج … وفعلا وبوسائل بسيطة قام بإنجاز فيلم قصير جدا وعرضه في قاعة الدرس … ورغم أن “الفيلم” كان حافلا بأخطاء شتى يبررها صغر سن وانعدام تجربة صاحب العمل، فقد صفقنا طويلا وصفق أستاذنا المخرج السينمائي فريد بوغدير تشجيعا لهذه المحاولة والمبادرة…
ولئن عذرنا زميلنا وشكرناه… وما زلت إلى اليوم معجبا بمجهوده بيننا ونحن وقتها نعجز حتى عن مسك آلة تصوير جيب عادية، فكيف بكاميرا “سوبر 8” مع ما تبع ذلك من عمليات كما فعل المرحوم يونس… لئن عذرنا الطالب الهاوي، فهل يمكن أن نفعل ذلك مع من يقال عنهم الآن مخرجون محترفون؟ … أخطاء يونس كانت منحصرة في “ارتعاش” الكاميرا بين يدين غير متمرّستين، وفي ضبابية الصورة أحيانا، وفي انعدام الصوت ربما … لكنه لم يصور شخصا يسافر في حافلة ذاهبة من يمين الشاشة إلى يسارها، وبعد ذلك يصور نفس الشخص “راجعا” ولكن حركته كانت أيضا من يمين الشاشة إلى يسارها… دون الحديث عن حلقة مفقودة متمثلة في نزول ذلك الشخص من تلك الحافلة قبل عملية رجوعه … بل ودون أن نتثبت أيضا من هوية الشخص الراجع بما أن المخرج صوّره في لقطة بعيدة جدا لا تسمح لك بالتعرف عليه … وما علينا سوى الاستنتاج وأنت وحظك …
نعم… حصل ذلك في مسلسل “رقوج” عندما يئس البطل وقرر ترك القرية والعودة إلى العاصمة، ثم يبدو أنه أعاد التفكير وصمم على مواصلة البقاء في القرية وبناء المدرسة فنزل من الحافلة لا أدري متى وأين، وقفل راجعا إلى بلدة رقوج … وهذا من أخطاء الربط (Faux raccords) التي تحفل بها أفلامنا ومسلسلاتنا ومنها هذا المسلسل … فضلا عن العجز عن تصوير لقطة حادث مرور أو اقتصار جريمة على وضع “شريطة” في عرض الطريق … والله العظيم … دون ذكر الإطناب في رقصات عبثية يقوم بها كل 5 دقائق ممثلو المسلسل جماعيا أو فرديا في الهواء ودون أي داع …
العبث هو العنوان الأبرز لكافة أعمالنا الدرامية والسينمائية، ربما تأثرا مبالغا فيه بمدرسة “الموجة الجديدة” في الستينات والتي تأخرت بالسينما الفرنسية ووضعتها على هامش السينما العالمية بعد أن كانت رائدتها … وربما استسهالا لهذا الفن خصوصا إذا كان الممول هو دعم الدولة السخي لأسماء بعينها مهما كان استحقاقها ومستوى شغلها… يضاف إلى ذلك جمهور متسامح بل متحمس باسم الوطنية، وحركة نقد عرجاء فاسدة يتصدرها متواطئون أو أشباه أميين … عبث في قصص أعمالنا، عبث في إنجازها، عبث في تلاعبها بالمال والوقت وكافة أصول الفن …
في المسلسل الآخر (فلوجة) إلى الآن لم أفهم ما الحكاية بالضبط، وكيف أفهمها ونحن بالكاد نسمع جملة على عشر مما يقوله أبطالها … الصوت؟ نعم، الصوت الذي أستغرب كيف يجيزه المهندس المسؤول وهل هو مهندس صوت أصلا؟؟ كل الممثلين يتكلمون همسا (في حوايجهم) وبحنجرة مبحوحة مهما كان الموقف ومهما كان الممثل … عجبا … ويزيد على النافسة أن المخرجة تضع باستمرار عمقا “موسيقيا” لكل حوار ودون أي مبرر … وهي موسيقى رتيبة مملة مشوّشة لا تدل على شيء ولا علاقة لها بمفهوم الموسيقى التصويرية …
بالمناسبة، يبدو أن تشويش الصوت وبحة الممثلين وهمسهم الدائم، هي سمة كافة مسلسلات الفهري منذ أن صار مخرجا فمنتجا فمليونيرا … نأتي الآن إلى أداء الممثلين … وهنا وسواء كان الممثل شابا حديث العهد أو قيدوما من أصحاب الخبرة، فمن الصعب أن يقنعك كثيرون منهم لو أزلنا الغطاءين المذكورين أعلاه (تسامح المتفرج ومجاملة أشباه النقاد) … وتندهش كيف في نهاية رمضان تسند “جوائز” لأحسن ممثل وأعظم ممثلة وتتم استضافات وتمجيدات واستعراضات غاية في الغرور… أما وجه الدهشة فهو نشاز الممثلين وفشلهم في التعبير عن معظم ما تقتضيه المواقف التي جسدوها… تحس دائما أن العمل تنقصه “غلوة” على كافة المستويات ومنها التمثيل… فتعابير الوجه واليدين مثلا في واد، وحقيقة الموقف (حزن، فرح، غضب، سخرية إلخ) في هفهوف ثان … نور الشريف قال مرة إن قوة الممثل تظهر خاصة عند رد الفعل، وجماعتنا في هذه النقطة أصفار على الشمال … وكيف لا يكونون كذلك،ولا مخرج أمامهم ولا إدارة ممثلين ولا أي واحد يقول: لا ليس هكذا، يجب أن نعيد المشهد …
لذلك يتيه ممثلونا في أعمالنا في حين يتألقون مع مخرجين خارج بلادنا… وشتان مثلا بين هند صبري وظافر العابدين في مسلسل تعيس كـ “مكتوب” وبين أداء كل منهما في فيلم “عايز حقي” أو مسلسل “تحت السيطرة”… هناك حيث لا لعب مع المستوى الفني، وحيث تعاد اللقطة عشرين مرة لو لزم الأمر حتى يصل التعبير إلى ذروته المنشودة … بينما عندنا، بإمكانك أن تخطئ في كل جملة، أن تتلعثم، أن تنسى، أن ترتجل بشكل رديء … لا يهم … وكعور واعط للمتفرج التونسي الأعور …