كنت صغيرة، وكان امتلاكي للعبة هو نهاية الأمنيات وأكبرها…
ذات يوم وبينما كنت أحمم لعبتي في برميل كبير للماء وضع في الحديقة الخلفية لبيت الجيران.. وقعت عينها الصغيرة التي تشبه خرزة زرقاء بحجم حبة العدس، وقعت في البرميل… فصرخت صوتا ملأ حيّنا، وأتبعته بسيل من الصراخ…ركضت جارتنا وقلبها يتدحرج أمامها من شدة خوفها، وهي تولول: يا دلي شو صار؟؟ ظنت أن عقربا لسعتني، وراحت تطبطب على ظهري وتحاول فهم القصة…بالكاد تمكنت من أن اشير إلى الماء، وأنا أشهق: وقعت عين اللعبة بالبرميل…تراجعت جارتنا وهي تمتم: يلعن أبوك لأبو عين اللعبة، موتيني من الرعبة!.
تذكرت تلك القصة هذا الصباح وأنا في طريقي لألتقي بكارولين…تذكرتها فرحت أشهق من شدة الضحك والبكاء…. كارولين سيدة أمريكية، ناجحة بكل ما تعنيه كلمة نجاح في أمريكا….راحت تذرف دموع قهر وهي تمسح أنفها بطرف كمها… كان تعبيرها عن ألمها يفوق قدرتها على أن تتلمس منديلا ورقيا من العلبة الموضوعة على الطاولة… وكنت أراقبها وأنا أسرح في عالم آخر…عالم يُذبح فيه طفل أمام عدسة الكاميرا، وتخسر أم أولادها الثمانية وتهرس عائلة بكاملها تحت ركام بيتها…عالم صار كل طرف يعتبر نفسه فوق القداسة،ويعتبر الطرف الآخر أقل قيمة من رصاصة…ورحت أقارن!….
كارولين ولدت وفي فمها ملعقة ذهب…لكن أحيانا لافرق بين أحد ولد وفي فمه ملعقة من ذهب وبين آخر ولد وفي فمه فاتورة مستحقة الدفع!
قد يخنقه محتوى الملعقة أكثر مما تخنقه كمية الفاتورة!
ترك والدها لها ولاختها من السيولة أكثر من أربعة مليون دولار، ناهيك عن المباني والعقارات والمشاريع، فهما وحيدتاه!
لم يثق الأب بابنته الصغرى، فمنذ طفولتها المبكرة لاحظ خللا ما في مستوى وعيها وفي تصرفاتها، ولم تستطع كل محاولاته أن تعيد صياغتها…لذلك، قسّم أملاكه بين البنتين بالتساوي، بشرط أن تكون أموال الصغرى تحت تصرفات أختها الكبرى قانونيا!
كارولين مرهقة إلى حد الإنهيار، مرهقة من المهمة التي تركها لها والدها، وهي رعاية أختها قانونيا!
اتصلت بي اليوم تستغيث: أنا بحاجة ماسة لأراك! انتهت أختها في الشوراع صريعة المخدرات، ولم تنجح محاولات كارولين في انقاذها…قالت والدموع تنهمر من عينيها: أعطيتها البارحة شيكا بأربعة ألاف دولار، واتصلت بي اليوم تهددني بأنها ستقتل نفسها مالم أعطها شيكا آخر، وتتابع: ليت والدي قد ترك كل أمواله لها، ولم يحملني مهة رعايتها قانونيا، لقد استنزفت كل طاقاتي،ولم يعد لدي من الوقت مايكفي للعناية بنفسي وبعائلتي.بودي أن أتنازل لها عن كل ما ورثه كلانا من والدي، ولكن أعرف أن لعنة والدي ستلاحقني.
………
كارولين تبكي من البطر، وملايين الناس في وطني يبكون من الطفر، وليس هناك فرق فالألم واحد
………
في المجال الطبي احتار العلماء كثيرا كيف يقيسون حدّة الألم…هناك كلمة في الانكليزي لا أجد لها مرادفا في العربي، كلمة تصف الألم على أنه Subjectiveبمعنى هو شيء شخصي، يتعلق بمدى إحساس الشخص ويختلف من واحد إلى آخر.ولكنّهم استطاعوا أن يتوصلوا إلى مقياس نسبي، وهذا المقياس يمتد من 1 إلى الـ 10فعندما يشكو المريض ـ على سبيل المثال ـ من ألم في كتفه، يسأله الطبيب: إذا اعتبرنا أدنى حدة للألم 1 وأعلى حدة 10، أي علامة تعطي ألمك وفقا لهذا المقياس؟ وبناء على تقدير المريض لحدة ألمه يقرر الطبيب العلاج.
………
هذا قد يصحّ مع الألم الجسدي،لكن الألم النفسي وعذاب الروح لا يمكن أن يقاسا…وبهذا الخصوص لا أرى فرقا بين ألم كارولين وألم أم فقدت أولادها الثمانية.ولا يمكن أن تكون دمعة كارولين أقل سخونة وحرقة من دموع تلك الأم المفجوعة..فلو سألت أيا منهما في حينها على أن تعطي ألمها علامة لقالت كل منهما بلا تردد: عشرة!
………
كلنا نتألم، وليس من العدل بمكان أن نستهتر بألم أحد بحجة أن السبب ليس كافيا…فكل منا يتألم بطريقته ولسبب يراه معقولا، لا فرق بين ألم أب فقد فلذة كبده، وبين ألم عاشق تركته حبيبته.
………
كنت ولم أزل أكره عادة سيئة جدا في مجتمعاتنا،فلكي تخفف ألم أحد من الناس لأنه ـ على سبيل المثال ـ فقد ابنه، تقول له: فلان من الناس فقد أولاده الثلاثة!
وكأنه ملزم أن يحس بألم أقل لأنه لم يفقد إلا ولدا.
………
.عندما ملأت الدنيا صراخا: (وقعت عين اللعبة بالبرميل)، لم أكن حينها أصدق أن في الدنيا شخصا أكثر مني ألما، أو أن في الدنيا لحظة فرح أخرى.
.عندما نكبر تتغير الأسباب، ويبقى الألم نفسه…والزمن لا يشفي الجروح، فالجروح النفسية لا تلتئم، لكنه يعلمنا كيف نتعايش معها!