لا أتصور أحدا يمكن أن يقبل بالبهدلة التي وجد المشيشي نفسه في غمرتها… إنه في وضع كيس الرمل الذي يتدرب عليه الملاكمون في تمارينهم فيما يتخفى المتسببون في ما يجري وراء جدار سميك في صمت شامت أو أنهم انضموا للشتّامين اللعّانين على شريعة الجبناء … لست هنا للدفاع عن رئيس الحكومة فلديه ما يكفي من الأجهزة للقيام بهذا العمل بل أرى كما يرى كثيرون أن الانشغال بالمشيشي عن قصد أو غير قصد يجعلنا نخرج عن الموضوع بالطول والعرض.
إن الوضع الذي انزلقت فيه البلاد يحتاج إلى تتبع أمين للتراكمات التي حدثت منذ 2011 و إلى يوم الناس هذا … علينا أن نستحضر كل الزخم الثوري الذي طغى على الساحة حيث راح كل طرف يروّج للرخاء العميم عبر عناوين فضفاضة و بعضها مضحك لفرط سخافته. و هل ننسى الهبّة الساحقة لمقاومة الفساد؟ و هل ننسى حملات “ديقاج” التي جرفت الصالح و الطالح لكي تفرغ مواقع القرار و تهديها لذوي القربى في المصالح؟ و هل ننسى حملات الترهيب التي طالت كبار موظفي الدولة بدعوى أن كل من خدم الدولة في عهد بن علي هو بالضرورة تجمعي؟ كانت حملات كاذبة و متهافتة بدليل أن حاملي الراية الثورية لم يجدوا حرجا في تثبيت و دعم من تعلقت بهم شبهات فساد حقيقية حيث ساوموهم بملفاتهم لقاء السكوت عن فساد جديد أشنع و أنكى…
و بالنتيجة و في مناخ اقتسام الكعكة طغى أسلوب المحاصصة مقابل تغييب كامل لعنصري الجدارة و الكفاءة فأعطيت الوزارات كما تعطى لحوم الذبيحة في الزردة … و لهف كل وزير منابه و فرّ به الى مكتبه الجديد الفاخر … و لعل مازاد الطين بلة أن سيادة الوزير نفسه عمل بنفس القاعدة حيث راح يفرغ المواقع الحساسة بدءا بالديوان و وصولا إلى رؤساء المصالح لتمكين ذوي القربى و الولاء من نعيم القرار … و كذا ساد مناخ من الريبة و الصدمة التي حولت الإدارات إلى أجهزة وشاية و تقارير تذهب إلى جهات مجهولة …. كانت استباحة معلنة لاستغلال الملفات بما فيها السرية لأغراض حزبية بل أن هذه الاستباحة بلغت درجة تسريب الملفات القضائية و الأمنية إلى جهات لا همّ لها سوى تدمير الدولة و الفتك برموزها.
و هل ننسى ما يسمى بهيئة الحقيقة و الكرامة التي أعدت شاحنات لحمل أسرار الدولة من قصر الرئاسة و لولا تصدي الأمن الرئاسي لحلت الطامة الكبرى و لصارت الأسرار الأمنية الكبرى في متناول أصحاب محلات نسخ الوثائق … كانت هده صورة أجهزة تنفيذ السياسات فما بالك بالسياسات نفسها ! و هنا مربط الفرس الذي قيدوا فيه المشيشي لينصرفوا إلى حبك سيناريو جديد قد يحميهم من الغضب الشعبي المتعاظم و قد يستعيدون بفضله جزءا من العفة السياسية … لكن و لحسن حظ الشعب التونسي أن ساسة زمن الثورة تعوزهم الحكمة و ليس في جعبتهم سوى تكرار نفس الأخطاء … تصوروا أنهم يدعون اليوم إلى مصالحة شاملة بمنطق “بوس خوك و طاح الكف على ظلو” …
أولا مصالحة من مع من؟ ثانيا هل يكفي التصالح لكي تحل مشاكل الاستعمال الأعرج للسلطة؟ ثالثا إذا تصالح من كانوا سببا في كل ما جرى للبلاد هل سيخرج الشعب مصفقا مهللا و كأن شيئا لم يكن؟ … طبعا لا فمن يدعون اليوم إلى المصالحة إنما يهدفون إلى تعويم الفشل على الجميع و بذلك تعسر محاسبة من تسبب في ما جرى… كما أن المشهد السياسي قد تغير اليوم بشكل لم يعد معه الالتفاف على المسائل الجوهرية ممكنا كما كان على امتداد العشرية الماضية …
الآن حين نعود إلى مربط الفرس حيث تركنا السيد المشيشي لا يمكننا إلا أن نتوقع تنكر النهضة لسياسة المشيشي باعتباره قد فشل في إدارة شؤون البلاد و تقديمه قربانا لقواعدها و المتحالفين معها . كذلك ألا يعد صمت رئيس الدولة على كل ما يحاك للمشيشي شكلا من أشكال التناقض مع الذات … أليس هو من فرضه على الجميع و بالتالي ألا يكون هو الآخر شريكا في الفشل؟ ثم ما معنى أن يطلع السيد الغنوشي مقرا بشرعية الاحتجاجات بأسلوب تسكير الفانات، و أن من حق كل من في جهته فانة أن يغلقها عملا بمقولة ما تصح الصدقة إلا ما يتززاو أمّالي الدار ؟؟… هل هذا كلام رجل دولة؟… هل يدرك خطورة ما يحرض عليه و بما يحمله من تناحر جهوي و عشائري و من نسف للانتساب على قاعدة الوطنية التي يحتمي تحت رايتها التونسيون في كافة أصقاع البلاد؟…
إن ما يمكن أن يستخلصه أي متابع نزيه لما يحدث من انفلات و تفكك في البلاد و من رصد رد فعل كل من رئيس الدولة و رئيس النهضة أن الأول يرى أن الفوضى يمكن أن تفسح له الطريق للترويج لشعار الشعب يريد … أما الثاني فيتصور أن هده الفوضى قد تعطيه فرصة للتخلص من الضغوط المسلطة عليه من كل جانب … فلربما سمحت له المآلات بإعادة التموقع من جديد.