تابعنا على

جور نار

سيدي الرئيس … زوّد الصنّارة بما يناسب السمك !

نشرت

في

طبعا لست من الذين رفعوا عقيرتهم بالصراخ مطالبين بالتراجع عن “الانقلاب”، ستستغرب سيدي الرئيس إن أسميت ما أتيتموه انقلابا …لأني على يقين أنه انقلاب…نعم انقلاب محمود في البعض من جزئياته…لكن على ماذا يا ترى؟ هو أولا انقلاب على ما وقع الاتفاق عليه في اجتماع باريس، فاتفاق باريس كان شبه اتفاق دائم بين الأطراف التي هندسته، فهؤلاء نسوا أو تناسوا أن تونس تعيش على رمال متحرّكة يستحيل معها الحفاظ على استقرار سياسي في أعلى هرم السلطة، ويستحيل معها استنساخ نتائج محطة انتخابية مع محطّة أخرى…

***

محمد الأطرش Mohamed Alatrash
<strong>محمد الأطرش<strong>

وهو ثانيا انقلاب على منظومة أنتم أحد أطرافها الثلاثة…والانقلاب في أبـسط تعريفاته هـو الإطـاحـة بـالـسـلـطـة الـشـرعـيـة بطريقة غـيـر شرعيـة، لكن في حالتنا هذه فالسلطة الشرعية انقلبت على نفسها وغيّرت المواقع، ولها الكثير من المبررات التي تُلزمها بالانقلاب على جزء منها…فلو انتظرتم سيدي الرئيس لشهر واحد فقط لتعلنوا “انقلابكم” لكان الانقلاب شاملا على كل المنظومة ولكان المشهد مخالفا تماما عمّا نعيشه اليوم…أو لكان انقلاب بقيّة أجزاء المنظومة عليكم سيدي الرئيس…ولأصبحتم في عداد العاطلين عن العمل، السياسي طبعا…وثالثا هو انقلاب ستحصدون كل ثماره وستستفيدون منه …لكن هل سيحصد الشعب معكم شيئا يا ترى، وهل سيستفيد مما فعلتم سيدي الرئيس…ورابعا هو انقلاب عقابي نأمل أن لا يزيد الطين بلّة…فأنتم عاقبتم بعضكم أو جزءا من منظومتكم بسبب فشلها في القيام بما يقع على عاتقها، وهنا علينا أن نسأل أيضا، هل قمتم أنتم بما يقع على عاتقكم ألستم أحد أضلع هذه المنظومة؟ وهل ستقبلون بعقاب الشعب غدا إن أخفقتم في ما يقع على عاتقكم؟ فأنتم لا تمتلكون تلك العصا السحرية للنجاح…والنجاح غير مضمون بعد كل ما حصل في البلاد خلال عشرية كاملة من التخريب والتدمير الممنهج…

***

إذن سيدي الرئيس، أنتم أكبر المستفيدين مما حصل ويحصل اليوم، فأنتم استحوذتم على كل السلطات لمدّة معلومة قابلة للتمديد، ستغيّرون خلالها ما يعرقلكم عن أداء عملكم وإنجاز بعض وعودكم لمن انتخبوكم، والله يعلم أننا لا نعلم إن كنتم ستمدّدون في مدّة “استيطان” السلطة إلى ما لا نهاية أم ستعيدون البعض من “مستوطنات” الحكم إلى من افتككتم منهم نصيبهم من السلطة والحكم…فبالفصل 80 من الدستور انقلبتم على من انقلبوا عليكم…وغدا بالفصل 163 من القانون الانتخابي قد تخرجون الجميع من تحت قبّة باردو وقد تقايضونهم من أجل مصلحة عليا لوطن يتألم…فأنتم وسعتم صلاحياتكم…لكن ضيّقتم الخناق على أنفسكم دون أن تكونوا على بيّنة من الأمر…فاليوم أنتم من سيحاسبه الشعب عن كل فشل أو انهيار … ولا أحد غيركم…

هل ستنجحون في ابعاد أصحاب الولاءات الأجنبية وهم كثر في مشهدنا؟ هل باستطاعتكم أن تساعدوا البلاد على أن تنهض من جديد بين كل هذه الأنقاض، وبعد كل هذا الدمار والانهيار؟ هل بإمكانكم، وهل ستنجحون في تغيير عقلية ساستنا من عقلية السمسرة إلى عقلية النزاهة؟ هل ستغامرون وستكون لكم الشجاعة في أن تقولوا لا للاتحاد وأن توقفوا مهزلة الاقتطاع الآلي…وهل…وهل…كلها أسئلة نسمعها اليوم من ألسنة المواطن المسكين…فالمواطن التونسي اليوم يحقّ له أن يحلم…ويحقّ له أن يرى أحلامه تتحقّق…فمجرّد ابعاد النهضة عن المشهد الحاكم كان حلما…فأصبح حقيقة…

سيدي الرئيس، مشكلة هذا الشعب ليست في ما فعلتموه إن كان انقلابا أو فقط عملية إنزال سياسي من أجل توسيع صلاحياتكم وتغيير ما لا يمكن تغييره تحت قبّة باردو…المشكلة تكمن في أن السلطة التي انقلبتم عليها وأوصلتنا إلى ما نحن فيه هي سلطة فاسدة ساقطة ومجرمة لم تلتفت يوما لوجع شعبها…ولم تكترث بمآلات أفعالها…فهذا الشعب لم يعد يكترث من يكون رئيس الحكومة ومن يكون الوزير، ومن يكون من حول الوزير فالنتيجة عندهم واحدة، ولن يتغيّر حالهم بمجرّد تغيير الأسماء…فالشعب يعيش منذ عشر سنوات أو يزيد في قبضة سلطة قتلت شعبها وخربت اقتصاد بلدها…دمرت القضاء والتعليم والصحة…وكل القطاعات المنتجة  وغير المنتجة…أحبطت جيلا بأكمله أصبح يجد في الانتحار غرقا في المتوسط حلاّ لجميع مشكلاته…

***

هل تسمحون سيدي الرئيس أن أسألكم، وأنا على يقين أني قد أُعدم أو قد أُسجن أو قد أحَاسب حسابا عسيرا من أجل تطاولي على مقامكم، ومقام انقلابكم بأسئلتي هذه وبما كتبت، وأنتم اليوم تملكون كل تفاصيل الحكم وكل ما يسمح لكم بالاستبداد إن أردتم طبعا ولا أظنّ أنكم ستستبدون يوما…ولأني سُعدت بالانقلاب كأغلب أبناء هذه البلاد…ولكل سبب سعادته، فأغلب من خرجوا يبايعونك يوم أعلنتم الاستحواذ على بقية السلط، خرجوا فقط لأنكم أبعدتم النهضة وشيخها عن هرم السلطة والحكم…ولا أحد منهم حين خرج فكّر في الوطن وفي انهيار البلاد اقتصاديا وسياسيا…جميعهم نسوا أن النهضة ومن معها تسببوا في كل ما نحن فيه ووجب محاسبتهم قبل ابعادهم…جميعهم وقعوا في الفخّ…هذا الفخّ الذي نعاني منه منذ انتخابات 2014 …فالباجي استعمل النهضة للوصول إلى الحكم ثم أجلسها إلى جانبه وجالسته وداعبها وداعبته حتى مات رحمه الله وأورثنا تركة مؤلمة أوجعتنا كثيرا…وبعض الأحزاب اليوم تستعمل النهضة أيضا لرفع حجم مخزونها ومضاعفة عدد أنصارها…وأنتم اليوم سيدي الرئيس تدغدغون مشاعر وأمزجة أتباعكم وأنصاركم وبقية مكونات المشهد بضربكم للنهضة وشيخها…أتدرون سيدي الرئيس أن هناك من كانوا سببا في ما نحن فيه بحجم النهضة أو أكثر وليسوا من الأحزاب…أتدرون…

شخصيا لست ضدّ ما فعلتم لكن خوفي من الآتي هو سبب ما كتبت…فأنتم في نهاية الأمر أنقذتم البلاد حتى إشعار آخر…لكنكم أيضا أنقذتم النهضة ومن معها ووضعتم الحبل، وأقصد حبل مسؤولية وتبعات الحكم الذي كان يلف رقبة المنظومة وعلى رأسها النهضة برقبتكم…فأنتم من سيتحمّل مستقبلا جوع الجائع…وبكاء المظلوم…وخيبة الفشل…ومرض المسنّ…وألم فراق الشهيد…ونحيب الثكالى…وغيرها من أوجاع الشعب والأمة…فأنتم اليوم “مولاها” ومن يتحمّل كل أوجاعها وأوجاع شعبها…فهل أنتم على بينة مما فعلتم وما تفعلون؟ فأنتم، وأنتم فقط بعد أن هربت النهضة ومن معها بجلدها …أقول أنتم فقط من ستحاسبون عن فشل أو نجاح هذه العهدة وهي إلى الفشل والخراب أقرب بما تركته لكم منظومة الخراب…وأظنكم  واعين بهذا الأمر وما ينتظركم…

سيدي الرئيس ليس أمامكم الكثير من الوقت وأنتم أمام أصعب مهامكم، وطريقكم ستكون مزروعة ألغاما…وفخاخا…وعليكم وهذا الأهمّ أن تحقّقوا وفي زمن قياسي إنجازا ولو صغيرا ترسلون به رسالة طمأنة للداخل والخارج…فدون طمأنة لا أظنّ أن هذا الشعب الموجوع سينتظر كثيرا قبل العودة إلى الشارع…ولا أظنّ أنه لو خرج سيعود قبل تغيير ما يراه صالحا لأجيالنا القادمة…

هم سعدوا لأنكم أبعدتم النهضة…وأنا سعدت بما سعدوا لكن سُعدت أكثر لأنكم أقلتم المشيشي السبب الأكبر لما نحن فيه…لكن هل هذا كل ما نريده فقط منكم سيدي الرئيس؟ هل أن مشكلاتنا هي فقط كيف نُبعد المشيشي لأنه انقلب علينا وارتمى في أحضان شيخ النهضة…وهل أصبحت النهضة وطنا حتى تكون هي مشكلتنا ألم تفسد في الأرض عشر سنوات؟ أنسيتم أن النهضة أعطتكم نصف مليون من أصواتها لأنها كانت ترى فيكم شبيها بمن سبقكم على كرسي قرطاج…أنسيتم أن المشيشي هو من وقع عليه اختياركم؟ إذن فأنتم اليوم انقلبتم على من كانوا إلى وقت غير بعيد سندا لكم، فهل لكم القدرة على تحمّل تبعات الفشل وهو الأقرب من كل الفرضيات الأخرى غدا… فمن كانوا سندا لكم أصبحوا خصوما يحاربونكم بما أوتوا من قوّة؟

***

هل ستخرجون البلاد من أزمتها؟ وهل ستنجحون في حلّ أغلب معضلاتها… المديونية… تراجع مخزوننا من العملة… شلل تام في الاستثمار والتنمية… المعاناة الاجتماعية… الحاجة الى الاصلاحات…هل ستنجحون في مقاومة الفساد وهو جزء هام من المنظومة الحالية؟ هل سترفعون المظالم التي ارتكبت في حقّ كل كفاءات البلاد سنة 2011؟ هل ستنجحون في كسب معركتكم الأولى والأهمّ اليوم، حربكم على الوباء؟ والأهمّ هل ستنجحون في مصالحة هذا الشعب بعضه ببعضه…هل ستنجحون في تخفيض نسبة الحقد التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه اليوم؟ أتدرون أن سقف انتظارات هذا الشعب أصبح مرتفعا جدا فهل سترفعون التحدّي؟

***

سيدي الرئيس…شعبكم وأنصاركم واتباعكم، ومن أسكرتهم “خمرة” قراراتكم، فخرجوا دون وعي منهم، دون احترام لبرتوكول التباعد الجسدي ولبس الكمامة، يبايعونكم ويصرخون “الله احد وقيس ما كيفو حدّ” سيستفيقون من سكرتهم بعد أن تُكملوا وضع بقية تفاصيل تحويل ملكية مستوطنات الحكم باسم مقامكم، أقول شعبكم سيخرج ليطالبكم بما وعدتموه…وبدفع الدين الذي بذمتكم….أتدرون سيدي الرئيس…أن العاطل سيسألكم عملا…وإن لم يجد فسيدير وجهه عنكم….والمظلوم سيسألكم العدل فإن لم تعدلوا بسبب أو بآخر… فإنه سيدير وجهه عنكم…والمريض سيسألكم توفير مصحة أو مستشفى بقريته لأن زوجته ماتت وهي في الطريق إلى العاصمة لإجراء عملية قيصرية…فإن لم توفروا له ما يريد …فإنه سيدير وجهه عنكم…والمسجون ظلما سيسألكم العفو فإن عجزتم …فإنه سيدير وجهه عنكم…والذي نهبت الدولة أمواله سيسألكم حقّه فإن أبيتم…فإنه سيدير وجهه عنكم…ومن منعوا عنه جواز سفره سيسألكم حقّه، فإن رفضتم…فإنه سيدير وجهه عنكم…وأبناء الشهيد الذين يموتون جوعا سيسألونكم دم والدهم، فإن أطلتم الردّ…فإنهم سيديرون وجوههم عنكم…والمدوّن الذي سجنتموه ظلما سيسألكم عدلكم، فإن أدرتم له وجهكم…فإنه سيدير وجهه عنكم…والكفاءة التي ظلمت وحرموها من ترقيتها وجُمدت في رتبتها ستسألكم عدلكم وحقّها، فإن تغافلتم…فإنها ستدير وجهها عنكم…والجائع الذي لم يجد قوت يومه وما يسدّ به رمق أطفاله سيسألكم مالا وصدقة، فإن أبيتم…فإنه سيدير وجهه عنكم…هذا جزء بسيط مما ينتظركم سيدي الرئيس…فهل أنتم واعون بما فعلتم…وهل أنتم على وعي بما ينتظركم وما ستفعلون؟

سيدي الرئيس، وأنتم تستعدون للإعلان عن حكومتكم…أول حكومة ستختارونها بالكامل…هل فكّرتم فعلا في كفاءات البلاد التي أبعدت….وكفاءات البلاد التي شرّدت…وكفاءات البلاد التي ظلمت…أتحتاج هذه الأرض إلى كل أبنائها…سمعنا كثيرا في أغلب خطبكم عن العدل…وعن الحقّ…وعن نظافة اليد…لا أحد منّا …وليس خوفا ولا مدحا يشككّ في نظافة يدكم… وفي نزاهتكم…فهل أنصفتم من ظلموا…وأياديهم نظيفة…وهل أنصفتم كفاءات المنظومة السابقة التي تواصل المنظومة التي انقلبتم عليها هرسلتَهُم والتنكيل بهم كل أسبوع بالمحاكم…أتريدون أن يحبكم الشعب…كل الشعب…أعدلوا بين من كانوا في الحكم قبل 2011 ولم يفسدوا وبين من حكموا بعد 2011 ولم يفسدوا….ونحن نعلم أنكم تعلمون أن من أفسدوا بعد ذلك التاريخ هم أضعاف أضعاف من افسدوا قبله…

***

سيدي الرئيس، سيحوم حولكم الكثيرون…وسيتقرب منكم الكثيرون…وسيهجر بعضهم أحزابهم ولودّكم سيخطبون…سيجتمع حولكم الكثيرون وفي بعض المواقع يرغبون…منهم من هم من عائلتكم…ومنهم من هم من اصهاركم…ومنهم من هم من أصدقائكم…فلا تستمعوا إلا لما يمليه عليكم ضميركم…والحقّ…فكل من سبقوكم هناك على كرسي بورقيبة العظيم…وبورقيبة نفسه… خُدعوا…من أقرب الناس إليهم…فأخطأوا كثيرا…ولم يعدلوا في بعض الحالات…وظَلموا دون أن يعلموا أنهم ظَلموا…فاعتبر سيدي الرئيس…اعتبر من كل أخطاء من سبقوك…

***

سيدي الرئيس الأكيد أنكم قرأتم في أسباب ما نحن فيه…والأكيد أنكم شخّصتم الوضع جيدا…فليست الأحزاب وحدها التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه… ابحثوا عن الأسباب…فمن يا ترى أوقف انتاج نفطنا…ومن يا ترى عطّل انتاج فسفاطنا…ومن يا ترى اغلق معاملنا…ومن يا ترى خرّب اقتصادنا…ومن يا ترى أبعد عنّا استثمارات الأجانب بيننا…ومن يا ترى ضاعف حجم كتلة أجورنا…ومن يا ترى ساهم في إضعاف إنتاجنا…ومن يا ترى قطع طرقنا…ومن يا ترى يجلس مع كل حكوماتنا يفرض خياراته عليها…ويشاركنا الحكم في أدقّ أدقّ تفاصيله…

***

سيدي الرئيس، سيقايضونك في ألف قضية وقضية…وسيضيّقون عليك الخناق يوم ترفض طلبا لهم…وسيهددونك بالإضراب العام وغلق مواقع الإنتاج…فأعلن قبل فوات الأوان…أعلن مواقع انتاجنا مواقع عسكرية… فجيشنا الوطني هو ضمانة الدولة والأمن والاستقرار…

سيدي الرئيس، لا تلوموني فأنا لست ممن يحبون الثناء ويجيدون المدح، لذلك فلا تنتظروا مني ثناء ومدحا…فأنا لست ممن يتملقون ليخبروكم بما تظنونه عن نفسكم وهو ربما ليس فيكم، طمعا في موقع أو ترقية أو مال…

سيدي الرئيس أختم رسالتي لأقول أن السمك يفضّل الديدان لذلك عندما أذهب للصيد لا أفكّر في ما أريده أنا من لحم ومن فاكهة بل في ما يريده السمك…لذلك أقول لكم سيدي الرئيس، استعملوا نفس الإدراك لكسب الرجال زوّدوا الصنّارة بما يناسب السمك…وأضيف…حدّثوا شعبكم بما يرغب فيه لا بما ترغبون فيه أنتم…وأكشفوا له الحقيقة الكاملة عن وضع البلاد اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا…فهو ينتظر الكثير…في زمن قصير…فقد يهادنكم…ويصبر عليكم…إن أخبرتموه بوجع الوطن…هو يريد منكم أن تروا ما يرى…وأن تسمعوا ما يسمع…وأن تقولوا ما يقول…وأن تشعروا بما يشعر…دون ذلك فلن يهادنكم…ولن يصبر…

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 115

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

في الفترة ما بين 2004 و 2010 لم تكن الاحداث التي عشتها كمّيا كثيرة وها انا امرّ على ابرزها لاخلص بعدها لقهرة الربيع العبري…

عبد الكريم قطاطة

عودة لسنة 2004… في اواسط تلك السنة بدأت رحلة تعاقدي مع جامعة صفاقس كخبير مدرّس للعلوم السمعية البصرية بمعهد الملتيميديا… صاحب المقترح هو مدير معهد الملتيميديا انذاك الزميل والصديق “عبدالحميد بن حمادو” الذي أعرفه منذ درسنا معا في تعليمنا الثانوي بمعهد الحيّ… سي عبدالمجيد فكّر في انشاء مادّة للعلوم السمعية البصرية ببرامج بعض شعب المعهد…تحادث في الموضوع مع زميلي الكاميرامان انذك مفيد الزواغي فأشار عليه بالاتصال بي وكان ذلك… وانطلقت مسيرتي كمدرّس لهذه المادة لمدة عشر سنوات بعد ان طلبت ترخيصا في الامر من رئاسة مؤسسة الاذاعة والتلفزة وتحصلت عليه، شرط ان لا يؤثّر ذلك على واجباتي المهنية… ومنين يا حسرة ؟

في وحدة الانتاج التلفزي كنا نعيش البطالة الدائمة ونتقاضى على ذلك رواتبنا ومنح الانتاج ايضا… وكان كلّما عُيّن مسؤول جهوي أو وطني جديد، قام بزيارة اذاعة صفاقس للتعرّف على احوالها وطبيعيّ جدا ان يزوروا وحدة الانتاج التلفزي… وكنت مطالبا كرئيس مصلحة الانتاج ان استقبلهم وان اقدّم لهم بسطة عن الوحدة وعن انتاجها… وكنت دائما اردّد نفس الاسطوانة التي كم اقلقت المديرين الذين تعاقبوا على رأس اذاعة صفاقس… كنت اقول لضيوفنا الاعزاء (اعني المسهولين): وحدة الانتاج التلفزي فيها كلّ شيء الا الانتاج، وبقية التفاصيل تأتيكم من مديري!…

مقابل ذلك كانت علاقاتي مع منظوريّ في مصلحة الانتاج التلفزي على غاية من الودّ والاحترام … بل ذهب بي الامر الى إعلامهم انه بامكان ايّ منهم ان يتغيّب لكن عليه يكتب لي مطلبا مُسبقا لرخصة غياب دون ذكر التاريخ، احتفظ به عندي حتى يكون وثيقة استظهر بها اداريّا كلّما اقتضى الامر وذلك لحمايتهم وحماية نفسي… وفلسفتي في ذلك تتمثّل في الآتي: مالفائدة في حضور موظفين لا شغل لهم ؟ خاصة انّ بعضهم يقطن عشرات الكيلومترات بعيدا عن صفاقس المدينة… ثمّ اليس واردا للموظّف الذي لا شغل له أن يصبح شغله الشاغل احداث المشاكل مع زملائه ؟ اذن مخزن مغلوق ولا كرية مشومة… لكن في المقابل واذا اقتضت مصلحة الوحدة ان يعملوا 16 و 18 ساعة ما يقولوش (احّيت)…

تلك العلاقة التي وضعت اسسها بيننا كرئيس ومرؤوسين رأيت عمقها يوم مغادرة الوحدة للتقاعد… يومها أحاط بي زملائي ورفضوا رفضا قاطعا ان اكون انا من يحمل بنفسه وثائقه وكلّ ماهو ملكه الخاص الى منزله… وحملوها عني جميعا وبكلّ سعادة مخضّبة بدموع العشرة… والله يشهد اني وطيلة حياتي كمسؤول سواء اذاعيا او تلفزيا لم اقم يوما باستجواب كتابي لايّ كان… ولم اخصم لايّ كان من اعدادهم في منحة الانتاج وفي الاعداد المهنيّة…

اذن وعودة الى علاقتي بجامعة صفاقس كمدرّس للعلوم السمعية البصرية بمعهد الملتيميديا ثم بعده بسنتين بمدرسة الفنون والحرف، حاولت ان اعطي دون كلل لطلبتي… كنت قاسيا معهم نعم… ولكن كان ذلك بحبّ لا يوصف… وبادلوني نفس الحب ان لم تكن دوزته اكبر … كنت الاستاذ والاب والاخ والصديق و كنت ايضا صدرا اتّسع حتى لاسرارهم الخاصة… رغم اني كنت ايضا بوليسا في امور الانضباط وتقديس العلم… وطلبتي الذين هم في جلّهم اصبحوا اصدقاء بفضل الفيسبوك شاهدون عليّ… ولعلّ من الاوسمة التي افتخر بها ما حصل في نهاية السنة الجامعية سنة 2012…

إذ ككلّ نهاية سنة جامعية يقع توزيع شهائد وجوائز للطلبة المتفوقين في جميع السنوات… وفي اخر القائمة سمعت من منشط الحفل يذقول: (الان الجائزة الاخيرة في هذا الحفل وادعو الاستاذ عبدالكريم قطاطة لتسلّمها)… فوجئت حقا بالاعلان… وكانت لوحة رُسمت عليها زيتونة وكُتب فيها (شهادة تكريم للاستاذ عبدالكريم قطاطة نظرا إلى عطائه الغزير لطلبة المعهد)… واعذروني على اعادة جملة تُريحني كلما ذكرتها وهي… “وبعد يجي واحد مقربع ويقلك شكونو هو عبدالكريم اش يحسايب روحو ؟؟” … بل تصوروا انّ زميلة من اذاعة صفاقس بعد حادثة ذلك الفيديو المنحوس حول من هم اعلام العار في نظري سنة 2012 (رغم انّي صححت فيما بعد ماجاء فيه ووضحت انّي لم اعمم وختمت بالاعتذار .. لكن وقت البعض يبدا يستناك في الدورة مهما وضحت وكتبت واعتذرت يكون موقفه”قاتلك قاتلك”)… تلك الزميلة ذهبت الى ادارة مدرسة الفنون الجميلة وطلبت منها فسخ عقدي معهم لاني لا اشرّفهم… وضحكوا منها وقالوا لها فيما قالوا: هاكة موش فقط استاذ الطلبة، سي عبدالكريم استاذنا وشرف لنا ان نكون تلاميذه… ورجعت المسكينة الى منزلها خائبة مذهولة مهمومة وغبينتها غبينة، المغبونة… وانا مسامحها…

قضيت 10 سنوات بمعهديْ الملتيميديا ومدرسة الفنون الجميلة وحتما ساعود الى اشياء عديدة حدثت فيها خاصة بعد قهرة جانفي 2011…

الحدث الاخير سنة 2004 كان دون جدال كُرويّا… تتذكّرو نوفمبر 2004 ..؟؟ وبالتحديد يوم 20 منه ؟؟ تتذكّروا هاكي التشكليطة السافيّة ؟ تتذكّرو زوبا وهو يمشكي في ملاعبية المكشّخة واحد بعد واحد ؟ تتذكّروا كيفاش علّق تيزييه في سقف الملعب ؟؟ انّه نهائي الكأس الشهير… وانه يوم سقوط امبراطورية فرعون الكرة ولد شيبيوب… وانا نعرف انو بعض المكشخّين ماشين عاد يسرسطو ماجاء من سور في كتابهم .. عن بطولاتهم .. عن القابهم وتونس بكلّها تعرف عن محصولهم في الشمبيونزليغ وطبعا ماشين يذكروني بهدف بوتريكة ويختمو بـ (ما تكلموناش احنا ماشين لكاس العالم في امريكا).. لاصدقائي المكشّخين الباهين فيهم وهم قلّة لانّ اغلبهم لا يورّيك ولا يفاجيك .. فقط لاصدقائي نحب نسألكم سؤال وحيد ..توة هدف زبير السافي في هاكي الفينال موش سميّح موش شيء يعمل 5555 كيف؟

موش تقول الواحد صيفا يبدا في يدو مشموم ياسمين وطاولة معبّية بالبطيخ والدلاع والهندي وما ننساوش الفقوس .. وهي تصير كورة من غير فقوس ؟…ويعاود يتفرّج عليه ويعشق العزف متاع زوبا ورقصتو كيف انتوني كوين في زوربا اليوناني ؟ وفي الشتاء يبدا قاعد تحت كوسالة وكاس تاي منعنع ويعاود يتفرّج على زوبا وهو يعزف اشي الحبّ كلّو واشي انت عمري .. واشي انساك ده كلام ويختمها ب ميا موري … نعرف اصدقائي المكشخين الباهيين يعرفوني بليد وماسط وخايب وقت نحكي على مكشختهم ..اما يدبّرو روسهم قلتلهم حبّوني؟… واذا حبوك ارتاح والله… دعوني الان اسرّ لكم بما لا يعرفه اغلب محبّي الفريقين حول ذلك النهائي… واصدقائي ومهما كانت الوان فرقهم يعرفون جيّدا انّي صادق في ما اقول والله شاهد على صدقي…

قبل خوض النهائي كان لنا لاعب معاقب (وسام العابدي)… ولد شيبوب كلّم هاتفيا انذاك احد مسؤولي النادي وقللو نقترح عليك اقتراح لفائدة الزوز جمعيات… قللو نسمع فيك هات… قللو تهبّط وسام يلعب الطرح وانا نقول للملاعبية يسيّبوا الطرح… تربح انت وتعمل شيخة انت وجمهورك وانا نعمل احتراز عليكم وناخذ الكاس… طبعا المسؤول رفض وبشدّة… ولد شيبوب قللو راك ماشي تهبط من غير قلب دفاعك وسام… تعرف اش معناها ؟ معناها ماشي انييييييييييي………… بزوز .. المسؤول ظهر حتى هو قبيّح وقللو .. انا منيش مهبّط وسام واحنا اللي ماشي انننننننننني ……… بزوز … وكلمة عليها ملك وكلمة عليها شيطان ..ولكم ان تعمّروا الفراغ وتربطوا بسهم … لكم حرية التعليق مهما كانت الوان فرقكم لكن مع ضوابط الاحترام …السبّ والشتم والكلام البذيء لا مكان لها في صفحتي! …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

لا تخرّبوا سور وسقف الوطن… فنحن غدا من سيدفع الثمن!

نشرت

في

محمد الأطرش:

كنتُ بصدد وضع اللمسات الأخيرة على مقالي الأسبوعي في جلنار، حين بلغ مسامعي صراخ وألم ووجع عائلات من قضَوْا تحت أكوام حجارة سور معهد المزونة، رحمهم الله.

تمرّد القلم بين أصابعي، ورفض إتمام ما بدأه والانصياع لأوامري، وما أكتب، معلنًا الحداد على من ماتوا، ووُئدت أحلامهم تحت حجارة سور جريح ينزف دم سنوات الإهمال والتخلي.

سور أصابته لعنة “باركينسون” تشريعاتنا المهترئة، فارتعش وجعًا. سور لم يرأف بحاله أحد من القائمين على شؤون ترميمه، وترميم ما يحيط به. سور سال دم جراحه، وأسال دم من مرّوا بجانبه وأمّنوه على أرواحهم. سور توجّع وتألم طويلًا، وبكى… ولم يسمع بكاءه أحد، حتى أبكى أمهات بعض من اعتادوا المرور بجانبه… سور تآكل، وبانت عورته، فغضب وانهار على من كانوا يمرّون بجانبه، يتكئون عليه، ويستظلون به من غضب الشمس وثورة الأحوال الجوية، وهم في طريقهم لطلب العلم.

الغريب ما قرأته بعد الفاجعة، وما سمعته من صراخ من خرجوا يهددون بالويل والثبور وعظائم الأمور. أغلب من خرجوا علينا يولولون، يطالبون بمحاسبة من تسبب في الفاجعة، ويطالبون بتحميل المسؤولية لكل من قصّر في أداء واجبه أو غفل عنه.

هكذا نقفز على كل وجع ومأساة، لنواصل الدعوة إلى الانتقام من كل ما سبق، ومن كل من سبقونا في تحمّل مسؤولية خدمة هذا الشعب… هل يجب أن ننتقم ونثأر بعد كل فاجعة أو فشل ممن سبقونا في تسيير شؤون مؤسسات البلاد؟ هل يجب أن نشيْطن كل من سبقونا في خدمة الوطن بعد كل وجع يشعر به جسد هذه الأمة؟ ألا يجدر بنا أن نعتبر مما حدث، ونبدأ بإصلاح حالنا وأحوالنا؟

أتساءل: ألا يتساءل أحدكم لماذا كل هذا العزوف عن تحمّل المسؤولية؟ أليس للفصل السادس والتسعين من المجلة الجزائية دور كبير في هذا العزوف، الذي أفرغ مؤسساتنا من كفاءات كنّا نفاخر بها، ونطمئن بوجودها على حالنا وحال مؤسساتنا وحال البلاد؟ ثم، أليس للفصل الرابع والعشرين من المرسوم عدد 54 نصيب مما نحن فيه، ومما عشناه ونعيشه؟ فمن كان يرى في السور عيبًا وخطرًا، لن يكتب عن الأمر، ولن يُنبّه لخطورته، خوفًا من أن يُتهم بنشر أخبار زائفة وإشاعات كاذبة…

ألم نغرق اليوم في وحل الفصل السادس والتسعين، ورعب المرسوم الرابع والخمسين؟ لماذا تنشر تشريعاتنا وبعض قوانيننا الخوف والرعب في نفوس كفاءاتنا، ومن يملكون القدرة على تحسين أوضاعنا؟ أيمكن للأمم أن ترتقي وهي تعيش تحت وطأة الخوف والرعب من قوانينها؟ كيف نطلب من بعضنا خدمة الوطن وهم يعيشون رعب القانون، ورعب الحقد، ودعوات الإقصاء والثأر والانتقام من كل قديم، وكل مخالف في الرأي، وكل من لا يعلن لنا البيعة، ولا يقف صارخًا “مزغردًا”، مصفقًا لأخطائنا، ملمّعًا لفشلنا، داعيًا لنا بطول العمر وجزيل الثواب؟

يا من تستمتعون بوجع خصومكم، ومن لا تتفقون معهم، ومن تركوا أثرًا طيبًا وانتصروا عليكم بما حققوه وأنجزوه…الوطن أمانة بين أيادينا جميعًا، فجنّبوه الفتنة، وجنّبوه الأحقاد، وحافظوا على سور الوطن…ولا تخربوا سقفه، فإن انهار سقف الوطن، فنحن، نحن الشعب، من سيدفع الثمن… نعم… نحن الشعب من سيدفع الثمن.

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 114

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

في جويلية 2004 انتهت حقبة اذاعة صفاقس مع السيّد عبالقادر عقير رحمه الله وغفر له وعُيّن السيد رمضان العليمي كبديل له وتحديدا يوم 12 جويلية…

عبد الكريم قطاطة

والسيّد رمضان العليمي شغل قبل تعيينه على رأس اذاعة صفاقس منصي كاتب عام للجنة تنسيق “التجمع الدستوري الديمقراطي” (الحزب الحاكم وقتها) بقفصة ثمّ مديرا لاذاعة تطاوين… وكعادة ايّ مدير عند تسميته اجتمع بالمسؤولين في الادارة بقاعة الاجتماعات المحاذية لمكتبه… ليعبّر وكأيّ مسؤول عن امتنانه لرئيس الدولة صانع التغيير لتشريفه بتلك المهمة… وعبّر وكسائر المديرين عن سعادته بوجوده في صرح اذاعتنا ونوّه بتاريخها وبالسواعد التي عملت فيها… ودون الدخول في تفاصيل اخرى تعرفون جيّدا تلك الخطابات الممجوجة التي يلقيها المسؤولون في مثل تلك التعيينات…

بعد ذلك تعرّف على المسؤولين فردا فردا… ولمّا حان دوري نظر اليّ السيّد رمضان العليمي وقال: (سي عبدالكريم اشكون ما يعرفوش انه اشهر من نار على علم، وهو بالذات عندي حديث خاص معاه)… وانتهى الاجتماع… وبقيت انتظر ذلك الحديث معه… وطال الانتظار… وكتبت له رسالة مطوّلة لم استجدِه فيها العودة الى المصدح فالحرة تجوع ولا تاكل بثدييها… لكن كان من واجبي ان اعطيه فكرة شاملة لا فقط عن وحدة الانتاج التلفزي حيث اُشرف فيها على مصلحة الانتاج، بل عن اذاعة صفاقس بشكل شمولي… وذلك من خلال ما عشته وعايشت فيها مع زملائي من احداث ناصعة البياض واخرى رماديّة حتى لا اقول سوداء…

هذه المراسلة كانت بتاريح 17 سبتمبر 2004 اي بعد شهرين و5 ايام من تعيينه… وها انا اختار الفقرة الاخيرة من مراسلتي الطويلة علّها تًعطي فكرة واضحة عن هدف تلك المراسلة حيث خاطبته بالآتي: (اخي الفاضل… انّ غيرتي على هذه الاذاعة هي وحدها التي جعلتني اكتب اليك فانا لا اطلب برنامجا او فضاء او ما شابه ذلك… ولكنّ الخطر الكبير يتمثّل في عديد الاسماء التي لا يمكن ان تكون امام المصدح وفي عديد البرامج التافهة تصوّرا وانجازا… وفي بعض الاشخاص الذين لا يملكون الحسّ الاذاعي ولا الكفاءة ومع ذلك يديرون امور هذه الدار على هواهم… اخي الفاضل احببت ام كرهت… الآن انت مدير هذه الدار وقدرك ان تعيد لها هيبتها وجمهورها واشعاعها… وهيبتها لن تعود الا من خلال تطبيق القانون ورفع المظالم … وفقكم الله لتسلّق هذه الجبال من المصاعب واعانكم على ان تكونوا كالميزان في عدالته، الذي لا يهمه ان ارتفع بالفحم او باللحم، بالتبر او بالتين… اليست العدالة هي اساس العمران ؟؟)…

السيّد رمضان العليمي كما ذكر في اجتماعه الاول بالمسؤولين وعد بحديث خاصّ معي… وانتظرت ولم يأت ذلك الحديث الخاصّ… وارسلت له المكتوب الذي حدثتكم عنه ولم يأت ذلك الحديث الخاص وها انا انتظر لحدّ اليوم وعده ولم يات ولن يأتي ولا حاجة لي بأن يأتي… لا لانه غادر الاذاعة ولست ادري ماذا اصبح اليوم وكلّ الرجاء ان يكون في صحة جيّدة مع طول العمر… ولكن لانّ الاجابة عن ذلك الوعد الذي لن يأتي جاءتني من احدى الزميلات في اذاعة تطاوين وهي بالاساس مستمعة لي منذ من البريد الى الاثير … وذلك بعد ستّة اشهر من تعيينه على رأس اذاعة صفاقس… حيث خاطبتني عبر مرسال فيسبوكي خاص بالقول: (لا تنتظر مؤازرة من السيّد رمضان العليمي… انه لا يكنّ لك الودّ وهذا عرفته عندما وددت تكريمك في اذاعة تطاوين ولكنّه عبّر بشكل مباشر انّه لا يطيب بذكرك… لكنّي كنت مصممة على تكريمك واذعن لي لكن لبس عن طيب خاطر)…

انذاك فهمت انّ الحديث الخاصّ معي لن يكون وحتى طيلة عهدته باذاعة صفاقس تحادثنا مرّتين فقط… يوم جاءني لمكتبي بوحدة الانتاج التلفزي ليسأل عن مشاكل الوحدة وندرة انتاجها… اي نعم قلبو وجعو على وحدة الانتاج… وتقولوشي عمل حاجة ؟؟ اقسم بالله وكانّه لم يسمع شيئا مما سردته له… المرة الثانية التي قابلته فيها يوم أقام حفلا خاصا لتكريمي سنة 2006 بعد احرازي على وسام الاستحقاق الثقافي من رئيس الدولة… وهو يصير منو ما يحتفلش بما قرره صانع التغيير؟…

ساعود لموضوع الوسام في ورقات قادمة… سنة 2004 ايضا وبالتحديد في 30 مارس شاء قدر الله ان يحرمني وللأبد من الوجود المادّي لوالدتي عيّادة… كان ذلك يوم اثنين… ولكن في الويكاند الذي سبق يوم الاثنين 30 مارس وتحديدا يوم الاحد 29 مارس كنت والعائلة وبعض من اهلي عائدين من الساحل بعد قضاء نهاية اسبوع باحد النزل… عندما وصلنا الى ساقية الزيت طلبت من سائق السيارة ان يتوقف.. اندهش الجميع لذلك… تصوروا انّ غايتي كان اقتناء قهوة او بعض المكسّرات للسهرة… توقف اذن ونزلت من السيارة وقلت لهم (كمّلوا ثنيتكم انا ماشي لعيّادة نحبّ نطلّ عليها ونبوسها وبعد نجيكم)… اندهش الجميع… يا ولدي اش قام عليك .؟ يا ولدي غدوة امشيلها … يا ولدي الدنيا مغربت .. تي راهي امّك في ساقية الدائر وانت في ساقية الزيت… تي راهو زوز كيلومتر موش شوية… تي هات على الاقلّ نوصلوك…

تعرفوه هاكة البهيم حاشاكم اللي يحرن ؟ اللي يعرفني يعرف انو من طباعي السيّئة وقت نحرن نحرن… وفعلا حرنت وزيد قلت لهم (انا طيلة دراستي الابتدائية كنت نجي من ساقية الدائر لساقية الزيت على ساقيّ… نحبّ نمشي على ساقيّ ونعيش شوية نوستالجيا ذلك الزمن… ايّا امشيو على ارواحكم)… وتوكّلت على الله وخليتهم داهشين في ها المخلوق وفي راسو الكبير وعنادو في احدى تلك اللوحات… صدقا كان هنالك احساس رهيب بداخلي وانا اقطع تلك المسافة… ذكريات… نوستالجيا… سعادة… وحزن لم افهم مأتاه…

وصلت الى مسكن الوالد والوالدة ومعهما اختي نبيهة التي تكبرني بسنة والتي لم تتزوج لإعاقة وُلدت بها ولم تقع معالجتها في زمن كان العلاج الطبّي نادرا جدّا… والتي لازمت الوالد والوالدة طيلة حياتهما، رحم الله الثلاثة… عندما دخلت للمنزل سلّمت على سي محمد… والدي هكذا كنت اناديه لا يا بابا ولا يا بويا ولا يابّا متع جيل توّة… ووجدت اخواتي الثلاث متحلقات حول عيادة… فرحت بي عيادة وباستغراب وقلق عن هذه الزيارة في وقت بدأ الليل يسدل ستائره ونظرت لولدها وسألتني: (يا وليدي لاباس عليكم ؟)… مسكت يدها وقبلتها وقلت لها وراسك الغالي لاباس توحشتك جيت نطلّ عليك اكاهو… تهللت اساريرها ونظرت الى اخواتي وقالت: (ما يعزش بيكم انتوما الكلّ في كفّة وعبدالكريم في كفّة راهو كفّتو تغلب)… وضحك البنات وأجبن (يخخي حتى تقوللنا؟..نعرفوا نعرفوا)… اعدت تقبيل يديها وبشكل جارف، لكأنّ القدر كان يهمس لي… اشبع بيها اليوم لانّها غدا ترحل…

في الغد وانا في مكتبي وكانت الساعة تشير الى الثالثة ظهرا هاتفني احدهم (لم اعد اذكر من هو) وقال لي: امّك مريضة وتحبّ تشوفك… ووجدتني بالنهج الذي تقطن فيه عيّادتي وسي محمد… وتسمّرت ساقاي عن المشي… سيارات رابضة امام المنزل… هذا يعني انّ عياّدة …. نعم دخلت وسالت اخوتي متى ؟ كيف ؟ بالامس كانت في صحة جيدة .. ماذا حدث ؟ لماذا لم تخبروني بما حلّ بها ؟… اجابتني إحداهنّ وقالت… كنا معها نتجاذب اطراف الحديث كما تعرفنا وفجأة قامت وقالت: (صلاتي ابجل من حديثكم سيّبوني نعطي فرض ربّي)… اقامت الصلاة ركعت ثمّ سجدت ثمّ هزّ ربّي حاجتو… وهي ساجدة…

دخلت فوجدتها مسجّاة في لحافها… دلفت اليها بهدوء لم ادر مصدره… رفعت الغطاء عن راسها… قبلت جبينها و قرات عليها نزرا قليلا من سورة البقرة (وبشّر الصابرين الذي اذا اصابتهم مصيبة) الى اخر الاية واعدت تقبيل جبينها و تقبيل يدها الباردة … والتي هي في برودتها وقتها كانت اشدّ حرارة من وهج الصيف في صحرائنا الكبرى… ورفعت يديّ الى خالقي وقلت (يا ربّي يجعلني كيفها)… لقد اكرمها الله بتلك الموتة الرائعة واستجاب لدعوتها الدائمة… يا ربّي يجعلني نهيّر في الفرش ونهيّر في النعش… ولأنّ الله قال في كتابه العظيم، سورة غافر آية 60: (ادعوني استجب لكم) واعاد نفس المعنى في سورة البقرة الآية 186، فالله اكرمها بان لا تقضّي حتّى يوما واحدا مريضة في فراشها…

الحمد لله اوّلا على قضاء الله… الحمد لله ثانيا على انّي نفذت وصيّتها لي بتلحيدها يوم دفنها… كان ذلك بعد اذان صلاة المغرب في المقبرة التي كنت اخاف من المرور بجانبها طيلة حياتي ليلا او نهارا… ولكن واقسم لكم بالله عندما ذهبت لتلحيدها في تلك الساعة، تحوّلت المقبرة امامي الى نور على نور… والحمد لله ثالثا انها رجتني في حياتها الاّ انقطع عن زيارة قبرها بعد وفاتها، وان احكي لها واطمئنها عن كل ما يجري في عائلتي…. وعائلات اخوتي… ووعدتها ولا زلت عند وعدي…

رحم الله عيّادة وابي واخوتي واهلي واصدقائي وزملائي… ورحم الله كلّ امواتكم واطال الله عمركم ومتعكم بالصحة والسلام الروحي …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار