عندما كنّا سنة 1968 نتخبّط في لجّة مشاكلنا الاقتصادية و ضرب أقلية متنفّذة لتجربة التعاضد الرائدة، و كانت السجون مليئة بيسارنا التائب اليوم، و كان زعيمنا غائبا أو مغيّبا عن مآسينا، و كنا خارجيّا نجامل هذا الطرف أو ذاك و نزدرد الغصة تلو الغصّة لقاء ذلك … وسط هذا، مرق شابّ قفصيّ مثل السهم من بين كوكبة من صفوة عدّائي العالم، و خطف منهم قصب السبق بجرأة و وقاحة نادرتين !
رحم الله أيام أولمبياد مكسيكو، و أطال عمرك يا أسطورتنا محمد القمودي … و لكن كوكبنا التونسي بعد عشر سنوات بالضبط، سطع مرة أخرى و عن طريق رجل آخر و من منطقة أخرى (بل من منطقتين: الكاف و سوسة) اسمه عبد المجيد الشتالي … زعيم حملة مونديال الأرجنتين و كتيبته المكوّنة من ستة عشر شابا من فقراء بلادي ومعدل أعمارهم لا يتجاوز 25 سنة … لم يخجلوا من منتخب المكسيك الذي كان تقريبا يلعب على أرضه، و لا من ألمان المانشافت و في جيوبهم آخر كأس عالم، و لا من بولونيا القوية التي لم تصدق أنها نجت منّا غدرا و أمضت ســــــاعة ونصفا من جريان الجوف حاشاكم …
و تكرّ الملاحم بعد ذلك عربيّا و قاريّا و دوليّا إلى هذه الساعة حيث يعتلي أبناؤنا و بناتنا من ذوي الاحتياجات الخصوصية سنام المنصّات و يحققون أرقاما و بطولات في بلاد الشمس البازغة و تويوتا و ميتسوبيشي … و ما لم أفهمه صراحة هو هذا: هل فكّر القمودي أنه من بلد تعداده وقتها أقل من تعداد أية عاصمة في أمريكا اللاتينية؟ … و هل حسب الشتالي و طارق و العقربي و تميم و غمّيض و الإمام و الكعبي، حسابا لثاني قوة اقتصادية في الكون واجهناها نحن الخارجين من أزمة ـ بل مجزرة ـ جانفي 78 و بؤسها و إفلاسها؟ … و هل كان الملولي أو الرفاعي أو البلبولي يقيمون وزنا لجنسية منافسيهم الأمريكية و يرتعدون من فكرة إسقاط الدولة الأعظم في العالم؟ … و أخيرا، هل اكتفت حبيبة الغريبي و روعة التليلي و وليد كتيلة، بالتقاط فتات صور تذكارية مع عمالقة الدنيا بدل الفوز عليهم و هرسهم هرسا، وهذا ما فعلوه و بجرأة أيضا و وقاحة كالتي كانت لدى القمودي الكبير؟
و الجواب كلاّ … رياضيونا بالقليل القليل يجلبون الكثير الكثير، على عكس ساستنا الذين كانوا على الدوام مدلّلين محظوظين و عيشهم عيش أباطرة أكاسرة … و لكن عطاءهم لا يُرى بالعين المجرّدة، و إن أعطوا شيئا ذات يوم فللآخرين النصيب الأوفر قبل هذه الشوليقة التي اسمها الوطن … ساستنا يتنازلون و يتسوّلون و يبلعون الإهانة و كل ذلك باسمنا و باسم واقعية دنيئة لا أدري من أين أتوا بها، في حين أن فئة أخرى من صميم هذه الأرض ترفض التنازل والمذلّة و تنتصر على الظروف المستحيلة قبل انتصارها على الخصم … أيوب الحفناوي مثلا لم يجد مسبحا لائقا يتدرب فيه، فكانت معظم تحضيراته تتم في بيسين نزل سياحي، ذات النزل الذي يتخلّع فيه نوّابنا و وزراؤنا و رؤساء وزرائنا … فإذا النتيجة: طفل يرفع الرأس و يجلب لنا الذهب، و سياسيون يسرقون منا الذهب و حتى الخشب و الحطب !
كان دائما أمامنا طريقان: طريق السياسي الجبان المداهن المتوسّط الطموحات و الموهبة و الانتماء، و طريق الرياضي المقاتل الذي لا يرضى لنا بما دون النجوم … و يبدو أننا ـ و منذ زمن ـ اخترنا الطريق الأسهل و الأنذل، أو “فتحنا البرميل من تحت” بتعبير الكوميديان المصري أحمد غانم …