تونس كأغلب بلدان العالم الثالث الفقيرة والميئوس منها تحتفل بيوم إبعاد حكامها عن الحكم، أو الانقلاب عليهم، وتجعل منه عيدا وطنيا ترفع فيه الأعلام ويصبح يوم عطلة سنوية…يعلن فيه الرئيس أو السلطان العفو عن مئات المساجين…ويوسّم خلاله ثلة من أقرب المسؤولين إليه وإلى عائلته وأقرب المقرّبين إليه…
هكذا إذن، مصائب حكام اليوم تصبح يوم فرح عند حكام الغد…فيوم عيد الجمهورية كان تخليدا لإلغاء حكم “البايات” وعزل ونفي آخرهم…ويوم السابع من نوفمبر كان تخليدا لإبعاد الزعيم بورقيبة رحمه الله من الحكم …ويوم الرابع عشر من جانفي كان تخليدا لخروج الرئيس بن علي رحمه الله وتركه البلاد والحكم…وقد يصبح يوم الخامس والعشرين من جويلية كعلبة الصانسيلك “اثنان في واحد” تخليدا للجمهورية الأولى وإعلان ولادة “الجمهورية القيسونية” نسبة لقيس بن منصف سعيد…
والأغرب من كل هذا هو أن الشعب التونسي كان سعيدا كلّما خرج عليه “منقلب” ليطرد من سبقه…فيوم أعلن بورقيبة رحمه الله عن إعلان الجمهورية زغردت النسوة من بنزرت إلى برج بورقيبة وأصبح بورقيبة معبود الجماهير وأطلقوا عليه لقب “المجاهد الأكبر” إلى يوم خروجه من قصر قرطاج ليصبح في نظر المزغردات والمصفقين والمصفقات “المجاهد الأصغر”…
وحين أعلن بن علي بيان السابع من نوفمبر رقصت النسوة من بنزرت لبن قردان وأصبح صانع التغيير وحامي حمى الوطن والدين إلى يوم مغادرته البلاد قاصدا مناسك الحج والعمرة فقذفوه بكل الشتائم والسباب واعلنوا عليه الانقلاب…وحين أعلن محمد الغنوشي عن خروج بن علي وتركه البلاد قفزت النسوة من بنزرت لذهيبة فرحا بمن عارضوا بورقيبة وبن علي فأقبل البدر عليهم وعليهن، وخطب حمّه فيهم وفيهن…ووقف الشابي مفاخرا بهم وبهن…إلى أن أصبحوا في نظرهم ونظرهن صناع “عشرية الخراب والدمار”….
وحين ألقى قيس سعيد خطابه عشية الخامس والعشرين من جويلية ضرب الطبل في بنزرت وعلا صوت البندير في بن قردان مفاخرا بالسلطان، حتى اشعار آخر…والأغرب من كل هذه الغرابة أن نفس من زغردوا على وصول منقذ البلاد …زغردوا على إبعاد منقذ البلاد…شعارهم في ذلك “مات الملك عاش الملك”…أي شعب هذا الذي يفعل كل هذا…شعب تونس لا يبكي من يفتقدهم من رؤسائه أو زعمائه إلا بعد أن يتذوق طعم حكم من يأتي بعدهم فينقلب شعار “مات الملك عاش الملك” إلى شعار “مبركك يا راجل أمي الأول”…
خلاصة ما وقع في هذه البلاد لا أحد ممن جلسوا في قرطاج بكاه الشعب يوم خروجه…جميعهم تمتعوا بالنحيب والبكاء يوم وفاتهم…فبورقيبة لم يبكه الشعب وهو خارج من القصر…وأشبعه بكاء يوم مات…وبن علي لم يبكه الشعب يوم غادر البلاد، واشبعه بكاء يوم دفن في أرض الصحابة والأنبياء…والباجي شتموه ونعتوه بأبشع النعوت طيلة أيام حكمه واشبعوه دموعا يوم دفنوه…هكذا إذن لم يسعد أي من رؤساء البلاد ببكاء الشعب وهو يغادر قرطاج…فشعب تونس يعشق البكاء على رؤسائه يوم دفنهم فقط…وليس قبل ذلك…
هل يقرأ حكامنا ورؤساؤنا الدرس مما وقع مع كل من سبقهم من سكان قصر قرطاج فجميعهم بحثوا عن محو تاريخ كل من سبقهم…وهل سيختلف قيس سعيد عن جميع من سبقوه ويعمل من أجل أن يبكيه هذا الشعب يوم مغادرته كرسي الرئاسة، لا يوم مغادرته الحياة فقط…؟ وهل يتراجع عن خياره الذي لن يذهب بالبلاد بعيدا؟ وهل يقرأ بعض ما جاد به علينا التاريخ من أروع الأمثلة عن تجارب بعض الشعوب في توحيد القوى السياسية وتكاتفها في سبيل إنعاش شعوبها وإنقاذها، فلم لا نكون منهم ومثلهم؟
ولماذا نواصل تعنتنا والتشبث بسياسات خاطئة ستؤدي حتما الى خلق دولة عشوائية فوضوية شعبوية سلطوية استبدادية وبناء اعوج هش لا يرتقي الى مستوى الدولة المدنية العصرية المحترمة التي نريد ونطمح… وهل سيصل هذا الشعب الذي يسعد بسقوط رؤسائه الى اليوم الذي يبكي فيه نهاية عهدة رؤسائه ويطالبهم بالبقاء…أظن أنه حلم قد لا نراه في غير بعض أفلام الكرتون…اليابانية…فهذا الشعب يعشق الحرباء…وحكامه يعشقون كراسيهم حدّ البكاء…