هل استفاق بعض هذا الشعب من سكرته؟ هل استعاد بعضه وعيهم؟ لا… أظنّ أن مفعول ما شربه بعض هذا الشعب من خمرة يوم 25 جويلية الماضي لا يزال جاثما على عقله ومزاجه وخياراته…
فمن خرجوا يصفون وينعتون ما فعله ساكن قرطاج بتصحيح للمسار لم يغيّروا مواقفهم إلى حدّ الساعة رغم ما وقع من تخريب وما يقع يوميا من هدم لمؤسسات هذه البلاد… فهل ثمّة مؤشر واحد يدل على أن ساكن قرطاج كان فعلا يبحث عن تصحيح مسار الحكم وإصلاح أوضاع البلاد وانقاذها من الهلاك؟ … لا أثر لأي مؤشر وأي انجاز يدلّ على ما ذكرت…ولا أظنّ اننا سنعيش ذلك مع ساكن قرطاج …
الواضح أن ساكن قرطاج كان وكما كتبت سابقا ومنذ يوم رفضه لكل حلّ لانتخاب المحكمة الدستورية بعد أن أفتى له بعض أساتذة القانون ممن يفوقونه علما ودراية وجهبذة وفطحلة وكل مرادفات هذه الكلمة والتعبيرة، بأنه الطرف الوحيد الذي يمكنه تأويل الدستور في غياب محكمة وقع تغييبها عمدا من المجلس النيابي السابق… فتأويل الدستور من طرف واحد في ظلّ ما تعيشه البلاد من صراعات يعني بالأساس اننا نسير في اتجاه وحيد هو الانفراد بالحكم، والعبث بكل فصول الدستور، ووضع نظام على المقاس من أجل البقاء في الحكم أطول مدّة ممكنة، والتأسيس لنظام هو أقرب إلى الاستبداد والدكتاتورية منه إلى موّال “الشعب يريد” الذي انخدع به جزء من الشعب بعد 25 جويلية…تعالوا نعدّد إنجازات مولانا ساكن قرطاج لنرى، فقد نظلم الرجل ونكتشف اننا في جنة تجري من تحتها قنوات الصرف الصحي ولا ندري…ماذا فعل مولانا منذ جلوسه على العرش يا ترى؟
هل أصلح حالنا الاقتصادي فأصبحنا من الدول التي لا تنتظر رأفة المنظمات المانحة ولا تمدّ يدها في شوارع نيويورك وواشنطن؟ لا… لم يفعل…بل خرج علينا بخطاب يشيطن فيه كل مؤسسات الترقيم السيادي وكشف لنا أنه ممن قرؤوا كتاب “أمّك صنّافة” منذ صدوره…
هل أصلح بين مكوّنات المشهد السياسي لإيجاد صيغة لتوحيد الجهود من أجل إنقاذ البلاد؟ لا …لم يفعل، بل درس جيدا مزاج جزء كبير من الشعب وأدرك ان جزءا كبيرا من هذا الشعب يكن العداء والحقد لحركة النهضة ومن يجلس معها على كراسي الحكم، فأعلنها عاليا حربه على النهضة ومن جالسها ومن صاهرها ومن تزوج ابنتها ومن أكل من يدها ومن داعب قطّتها ومن قال “شِرْ” لكلبتها، لاستمالة خصومها ومن يكرهونها …فخرّ له السكارى والأغبياء والحاقدون والكارهون للشيخ واتباعه ومن اتبعوا هديه وهداه ساجدين… عفوا راقصين صارخين داعين له بطول العمر وطول اليد …والبقاء جاثما عليهم إلى الابد…
هل خطا خطوة واحدة في اتجاه جلب بعض الموارد المالية من بعض الدول الشقيقة والصديقة؟ لا…لم يفعل… بل كلفتنا تصرفاته والتصرفات غير المحسوبة والمدروسة لبعض من هم معه وحوله العديد من الانتقادات من بعض الدول التي كانت في ما مضى سندا لنا…
هل بدأ في إصلاح المشهد السياسي وهياكله من أجل إيجاد صيغة “توافقية” ليس بالمعنى الذي عشناه طبعا، لعملية انقاذ واسعة يشارك فيها الجميع دون عرقلة من البعض؟ لا… بل بدأ في تفكيك كل مؤسسات الدولة والهيئات الدستورية لإفراغ الدستور من محتواه ثم في قادم الأيام إعلان وفاته وتحديد موعد مراسم دفنه، حسب ما جاء في استشارة عرجاء لم يلجها إلا بعض من لا يفقهون شيئا عن عملية الولوج فجاءهم الدعم من رجالات مولانا وأعوانه …أو ممن يبحثون عن قطعة من كعكة الحكم، أو البعض الآخر ممن أجبروا محليا وجهويا أو خدعوا بخطاب وكلام معسول لولوجها، وأصبحت “حملة المراودة” من أجل الولوج إلى الاستشارة أقرب إلى عمل مسرحي سيء الإخراج يذكّرنا بتعبيرة كان يصرخ بها باعة الحلوى في شوارع العاصمة “ايجا منّا ذوق البنّة” …
هكذا ببعض الآراء المسقطة سيقع تحويل وجهة كل الشعب نحو ما يريده مولانا، وما قرره دون حتى أن يطلب رأي الشعب، كل الشعب، فيه … فكل ما سيقع في قادم الأشهر مخطّط له وسيجبر هذا الشعب على الانصياع لرغبة مولاه…فنتائج الاستشارة ستُفرض على كل ما سيتبعها…و نتيجة الاستفتاء ستكون كما يريد مولانا واتباع مولانا ورجالات مولانا …ونتيجة الانتخابات إن نظمت طبعا ستكون على نفس شاكلة الاستفتاء فهي ستكون كما يريد مولانا واتباع مولانا ومن يمدح مولانا …
هل فكّر في حوار وطني يجمع كل الفرقاء من أجل توحيد الجهود لإنقاذ بعض ما يمكن انقاذه…لا…لم يفعل بل أخذ معولا وبدأ في هدم كل الأحزاب والمنظمات التي لم تعلن البيعة والولاء، والتي سيجلب له ضربها تصفيق ومبايعة وموالاة جزء من الشعب كما فعل الباجي رحمه الله حين أسس حملته الانتخابية على ضرب النهضة …وكما تفعل عبير موسي منذ بعث حزبها وكما يفعل بعض اليسار…
ساكن قرطاج قرأ جيدا مزاج الشعب بعد انتخابات 2019 وقبلها، فبدأ في تأجيج نار مزاج الرافضين منه لسياسات النهضة ومن معها، والرفع من حرارة ذلك المزاج ليصبح قابلا للانفجار في كل لحظة، فهو بصريح العبارة لم يرأف بحال كل الحكومات التي سبقت “انقلابه” رغم أنه اختار من يجلس على كرسي القصبة لمرتين، فإنه زرع كل مخزونه من الأحقاد والألغام وأطلق كل ترسانته من الصواريخ في اتجاه حكومتي الفخفاخ، والمشيشي … هذا الذي كان ساكن قرطاج يعلم انه لا يصلح لكرسي القصبة ولا حتى لمكتب صغير فيها وقد يكون جاء به لغاية دفعه للفشل وليكون مبررا آخر يمنحه ورقة الانقلاب على شركائه بالفصل 80 سيء الذكر، قاطعا الطريق أمام كل ما من شأنه أن يُنجح مسارهما برفض بعض التحويرات الوزارية، ورفض امضاء بعض القوانين دون أن ننسى أنه لم يحرّك ساكنا أمام أزمة الوباء التي قضت على الآلاف وحُسبت تبعاتها على من انقلب عليهم، مستثنيا فقط قانون 38 لتشغيل أصحاب الشهائد العليا فقد يكون أمضاه لغاية في نفسه … فذلك القانون يعتبر عبوة ناسفة قد تنفجر في وجه أية منظومة ترفض تطبيقه يوم يحين موعد تنفيذ بنوده، ولم يقرأ حسابا بأن ذلك القانون قد ينفجر في عهدته بعد أن أنقذ بانقلابه النهضة ومن معها من تبعات عدم تنفيذ ما جاء فيه، ليبقى وحده أمام احتمال انفجار تبعات عدم تنفيذه في قادم الأشهر…
ساكن قرطاج كان يعلم ان تصاعد غضب الشارع وعدم رضاه عن الأوضاع التي تمرّ بها البلاد سيكون سلاحا في يده للاستيلاء على الحكم وإبعاد كل خصومه من المشهد …بدءا من النهضة ومن معها فهي التي قد تقلق راحته في قادم المحطّات الانتخابية، ثم عبير موسي بسحب البساط من تحت قدميها من خلال ضرب النهضة التي نجحت عبير ومن خلال محاربتها لها منذ سنوات في كسب جماهيرية بوأتها المراتب الأولى في عمليات سبر الآراء … ساكن قرطاج كان يبحث عن قلب الأوضاع، جميع الأوضاع لصالحه فهو في حقيقة الأمر لم يكن يبحث فقط عن كرسي قرطاج فكرسي قرطاج بصلاحياته العرجاء والمبتورة لن يحقّق له كل ما يريد وهو الذي يبحث عن تأسيس نظام حكم يذكره التاريخ باسمه، كما كان الأمر مع بورقيبة وبن علي … ساكن قرطاج كان يبحث منذ زمن بعيد ويخطّط للاستحواذ على جميع مفاصل الحكم مرورا بإلغاء الدستور الذي انطلق في شيطنته منذ يوم جلوسه الأول على كرسي بورقيبة العظيم، وأعلن عليه الحرب، فهو سبب ما وصلت إليه البلاد من انحدار وانهيار في جميع المجالات حسب ما كان يقوله ويصرح به في كل خطبه الناسفة والعنقودية، وقد استعان ببعض زملائه من أساتذة القانون لتأكيد ما يخطّط له…
خلاصة ما يريده ساكن قرطاج الحالي هو أنه بحث عن الجلوس على كرسي قرطاج لا ليجلس هناك لعهدة واحدة ويخرج دون أن يترك أثرا يكتبه التاريخ…هو يعلم أن الأوضاع الاقتصادية للبلاد لن تسمح له بذلك، وقد يصبح نسيا منسيا بمجرّد خروجه من القصر، ساكن قرطاج كان يبحث عن أكثر من ذلك بكثير خاصة بعد تأكده انه لن ينجز وعدا واحدا لأتباعه ومن انتخبوه في الدور الأول (لأن من ساندوه في الدور الثاني كانوا تحت تأثير خمرة قطع الطريق أمام القروي…) فكرسي قرطاج بصيغته الحالية لن يخدم صالح ساكن قرطاج الحالي، ولن يرضي طموحه، لذلك بحث ومنذ جلوسه على كرسي قرطاج عن الإيقاع ببقية سكان قصور الحكم وصناعة مبررات الانقلاب عليهم دستوريا وهذا ما أتاه إلى حدود هذا اليوم …ولا شيء غير ذلك…
نعود لنعدّد ما أنجزه مولانا طيلة سنوات جلوسه على كرسي قرطاج…لم يحقّق شيئا واحدا يذكره التاريخ…ولم ينجز أمرا واحد في صالح هذا الشعب…ولم يأت أمرا واحد يجعل هذا الشعب يعيد انتخابه غدا…إذن كيف سيحافظ على كرسي قرطاج؟ مولانا اكتفى بالتغطية عن حدث بحدث آخر يحدث أكثر ضجيجا… فكان كلما شعر بخيبة أتباعه وبرود تفاعلهم (نقص الجامات الفايسبوكية والشعبية والصراخية والزغردية والمدحية …) يخرج عليهم بقرار جديد لا ينفع الناس لكنه فقط يرضي مزاج أتباعه الحاقدين على كل من حكموا البلاد قبل مولاهم…فوقع تحويل وجهة الشعب عشرات المرّات بقرارات لا تنفع الناس…وكان كلما سكتت ايادي أتباعه عن التصفيق يخرج عليهم وعلى الشعب بقرار لا نعلم من أوحى به إليه…فيخرجون دون وعي منهم يصفقون ويرقصون ويهتفون باسم مولاهم حتى مطلع الفجر ثم يعودون إلى ديارهم يسألون زوجاتهم عما يشبع بطونهم…خلاصة إنجازات مولانا هو البحث عن كل ما يرضي مزاج أتباعه حتى لا ينفضّوا من حوله قبل أن يستحوذ رسميا على كل مفاصل الحكم والدولة…
هذا الشعب المخدوع في حكامه، كل حكامه بعد 14 جانفي يعيش اليوم خدعة أخرى أكبر وأخطر تريد ان تفرض عليه امرا واقعا بطريقة الري قطرة قطرة…ولأنه لا يزال تحت تأثير خمرة الخامس والعشرين من شهر “الانقلاب” عفوا شهر جويلية فإنه لن يستفيق بسهولة بما يقع له اليوم وكل يوم، فسياسات مولانا اليوم يقع تمريرها جرعة بعد أخرى…فبعد أن أسعد جمهوره بضرب النهضة ومنظومة ما قبل 14 جانفي ومن معهما…أسعد من يحقدون على النواب بحل مجلس النواب والتنكيل بنوابه…ثم اسعد بعض من يحقدون على رجال الأعمال …ثم أسعد من يحقدون على القضاة بحل مجلسه الاعلى…ثم اسعد من يحقدون على الإعلام بالتضييق على الاعلام وتكميم الافواه وسجن كل من يقول كلاما لا يعجب مولاه أو حتى أتباع مولاه…ثم أسعد من يحقدون على رجال المحاماة…ثم اسعد بعض من يحقدون على مؤسسات الترقيم بالتهكّم عليها…
أصبحت سياسات مولانا عبارة عن عبوات من الحقد تحقن لاتباعه لتطول سكرتهم ويتواصل فقدانهم لوعيهم كلما انخفضت نسبة ثاني أوكسيد البيعة والموالاة والفرح الدائم…فأتباع مولانا اليوم سكارى وما هم بسكارى…فإن سألت احدهم ماذا فعل للبلاد مولاك حتى تبايعه بهذه الطريقة، سيجيبك ضاحكا سعيدا مفاخرا قائلا “خرّج النهضة وحبس مخلوف ومرمد البحيري وحل مجلس النواب وجمّد النواب وحل مجلس القضاء و و و و…وجابلنا نجلوتة التحفونة” وكأني به قال إن البلاد حققت مؤشرا برقمين في نسبة النمو… لكن هل سيطول هذا الأمر كثيرا…فماذا سينفعهم كل ما اسعدهم به مولاهم من قرارات لم تدخل جيوبهم مليما واحدا…ولم تدخل بيوتهم فرحا واحدا…ولم تغيّر من حالهم شيئا…ماذا سيقولون غدا حين يشعرون بالغربة في أوطانهم….ماذا سيقولون غدا حين يشعرون أنهم يعيشون في سجن كبير أبوابه مغلقة…ماذا سيقولون غدا حين يشعرون بفراغ جيوبهم بعد أسبوع واحد من صرفهم لمرتباتهم…ماذا سيقولون غدا حين لا يجدون دواء لمرض امهاتهم أو زوجاتهم …ماذا سيقولون غدا حين تغيب مرتباتهم لأشهر بدعوى الأزمة الخانقة والافلاس غير المعلن…ألا يوجد بينهم عاقل يقول لمولاه…مولاي نحن اتبعناك وساندناك ودعمناك وهتفنا باسمك وصفقنا لك لتغيّر حالنا وأحوالنا واحوال البلاد…لتوحّد بيننا جميعا لنعيش في سلام ووئام وننسى احقاد الماضي من اجل حاضر اجمل ومستقبل لأبنائنا افضل…ولم نفعل ذلك لتشتت شملنا…
أظنّ أنه يصح علينا اليوم قول “لا ينفع العقار في ما افسده 25 جويلية” فبعض هذا الشعب في حالة سكر فاقد للوعي منذ ذلك التاريخ…