في الأسبوعين الأخيرين ثارت الثائرة عندما أذاع أحد البرامج ريبورتاجا عن شحنات قمامة وصلت من إيطاليا إلى ميناء سوسة … تنصدم أنت من الخبر خاصة حين تعلم أن هذا “النشاط” تقوم به شركات و أن تلك الشركات مرخصة في العمل بعلم الحكومة و أن الجميع نفضوا أيديهم حين فضحت التلفزة الموضوع …
تندهش أكثر حين تعلم أنها ليست المرة الأولى التي نشتغل فيها زبّالين لإيطاليا الدولة المتخلّفة و المصدّرة لأبنائها و بناتها إلى وقت قريب، و قبل أن تهبّ عليها نعم السوق الأوروبية المشتركة ثم الاتحاد الأوروبي … و أن مئات الحاويات سبق لها أن شرّفتنا فدخل ترابنا منها ما دخل، و حصل في الديوانة و تحت شباك الحقائق الأربعة ما حصل …
تندهش ثالثا حين ترى العراك الذي انفجر فجأة بين وزارة البيئة و صاحب الشأن أي السيد الذي رضي بأن يشتغل سائق ريموركة لدى باولو و لوريتا … و تفغر فاك حين تراهم يتقارعون بالحجج حول “قوانين” السماح باستيراد النفايات و شروطها و كراريس شروطها … و تفهم وقتها تلك الجلسات المطوّلة لبرلماننا حتى آخر الليل فيم كان نقاشها و علام كان تصويتها …
تندهش رابعا (و الحقائق كواترو) حين ترى الهرج و المرج الذي تلا إذاعة البرنامج و كيف قامت لدينا ما يسمّى لدى المتحضّرين بـ “قضية رأي عامّ” … أصبح لدينا رأي عامّ و له قضايا؟ ممتاز، فما مشكلته اليوم؟ … موضوع الغضب التلفزي و الشعبي و حديث المقاهي ليس لأن تراب الوطن الذي يزعم الكلّ أنه يموت يموت و لا تُمسّ حبة منه … أصبح لا يزيد سعره عن مكنسة في بيوت بالرمو …
و موضوع الاحتجاج ليس لأن بيئتنا مهددة بطبعها … غابات كثيرة لدينا اختفت، شريط ساحلي راح نصفه، مناطقنا الرطبة تتم السمسرة بها و تتحول إلى مقاسم بناء، مائدة مائية تتعفن شيئا فشيئا و الدليل نوعية مياه الدولة … و هناك أيضا شكوك في دفن مواد خطرة سابقا و حاضرا تحت أديم بعض جهاتنا، و حصلت منذ أعوام مظاهرات جمعياتية ضد مشروع غاز الشيست، و لا أظن أن حكومة الترويكا أو ما بعدها، أقامت وزنا للمتظاهرين أو لرفض الرافضين … و يجب أن ننتظر غارة تلفزيونية جديدة، حتى نكشف المستور من عملية الشيست هذه و أين وصلت …
و لم يأت الاحتجاج من بلديات عديدة ضاقت بها الدنيا (مثل جربة) و لم تعد تجد مصبات كافية على أرضها و لا في الجوار … و لا من بلديات أخرى صارت تئزّ من تكاثر المصبات العشوائية في حرمها، و خاصة تلك التي تتسرّب ليلا و يمكن حتى أن يقصّر السائق على نفسه الجهد فيفرغ شاحنته هكذا في عرض الطريق أو على ضفافه … و يمكن أيضا أن تتغاضى عنه سلطات المرور و الرقابة بشتى مسمياتها و قلة نفعها، فيفعل فعلته في رابعة النهار كما يقال …
لم يحتجّ بنو وطنك إذن على انتهاك حرمة وطنهم، و لا عن تهديد بيئتهم و حياتهم و لا عن أي شيء من هذا … كل التنديد و الصراخ كان عن نوعية تلك الفضلات الإيطالية، هل هي قابلة “للتدوير” أم غير قابلة للتدوير … طبعا ما دمنا غرقنا في ثقافة تدوير الحزام ببركات النوبة و الحضرة و منذ ثلاثين سنة …
… و من يهُنْ يسهُل الهوان عليه …