بالأمس تابعت اللقاء الترتيبي بين المغرب و كرواتيا بأحد الفضاءات العامّة … كان المكان مكتظا بالرّواد من الجنسين شبابا و كهولا و كبارا … لا حديث للنّاس إلاّ عن الكرة و عن هذه الدّورة من كأس العالم و عن مردود المنتخب المغربي و التوقعات لمباراة النهائي اليوم بين فرنسا و الأرجنتين ومقارنات بين وضع المنتخب التونسي و الرياضة التونسيّة عموما و ما أنشأه المغرب من مراكز تكوين و ما قام به لتطوير اللاعبين و تأطيرهم ممّا أبلغه نصف نهائي كأس العالم ..
و في الأثناء و بين الهجمة و الأخرى كنت أتصفّح هاتفي فتذكّرني تدوينات الأصدقاء السّاخرة بالانتخابات ، انتخابات لم أر لها صدى على أرض الواقع خلال جولة قصيرة قمت بها داخل المدينة بين بعض مكاتب الاقتراع … فلا اكتظاظ و لا صفوف و لا سيارات أو درّاجات رابضة في انتظار أصحابها و لا نساء ورجال يتجهون نحو المدارس التي أخليت باكرا من تلاميذها لتفسح المجال للانتخابات
انتخابات لم أجد لها صدى حتى في نقاشات روّاد المقهى فكأنها تدور في بلد مجاور …
كان بإمكان الكثيرين الانخراط في منظومة 25 جويلية حتى و إن كانوا معترضين على طريقة سعيّد في تأويل الفصل 80 و على إغلاق مجلس النّواب بالدّبابات و على احتكار الرّئيس لكلّ السّلطات وعلى اعتماد المراسيم في تسيير البلاد منذ سنة و نصف، لو حرص رئيس الدّولة نفسه – و هو المتصرّف الوحيد في شؤوننا و المسؤول الوحيد حاليّا عن واقعنا و عن إيجاد حلول لمشاكلنا – على محاسبة حقيقيّة للفاسدين والمتمعّشين و المستغلّين للسلطة الذين لطالما تحدّث عنهم كما لو كانوا أشباحا لا يمكن ملاحقتهم أو الإمساك بهم ..
كان بإمكان النّاس الانخراط في هذه المنظومة لو حرص الرئيس على محاسبة كلّ سياسيّ عبث بالبلاد وأفسد فيها و تآمر ضدّ مصلحتها بدل أن نرى بعضهم يجول بين عواصم العالم و يحتلّ أرقى المناصب …
كان بإمكان النّاس الانخراط في هده المنظومة لو أنّ الرئيس أحاط نفسه بأصحاب الكفاءات في كلّ المجالات (وما أكثرهم في بلادنا لو كنتم تعلمون) ليرسموا تونس جديدة، تونس التي نريد سنة 2025 و سنة 2030 و سنة 2050
كان بإمكان النّاس الانخراط في هذه المنظومة لو أنّ رئيس الدّولة حرص منذ صبيحة 26 جويلية على لمّ الشّمل و توحيد الصفوف و تجميع التونسيين حول حلم واحد، فكرة واحدة مشروع مستقبلي واحد و بناء متين و واضح … أمّا خطاب التّفريق والتّخوين و الشّيطنة الذي ما فتئ يردّده فلن يتسبّب إلاّ في مزيد نشر الحقد و التّفريق بين المواطنين و على مزيد تدمير ما بقي من مؤسسّات الوطن
إنّ الشعب بعزوفه عن التوجّه إلى مراكز الاقتراع بالأمس عبّر عن موقفه من مآل 17 ديسمبر من ناحية، وعن موقفه من المترشحين الذين طفا الكثيرون منهم على السّاحة (رغم وجود كفاءات و أسماء محترمة) دون أيّة خبرة تذكر و دون أن نعرف لهم سابقا أيّ موقف أو مشاركة ميدانيّة أو حضور في اعتصام أو مظاهرة أو حتى تنديد في عريضة الكترونيّة من ناحية ثانية، و عن تلاشي اهتمامه بهذا المسار الذي كان ينهار يوميّا على يد من أنشأه بسبب عدم تطابق الأقوال مع الأفعال و عدم تناسب التّصريحات مع الإنجازات من ناحية أخرى … فقد أ درك الشعب بعد سنة و نصف أنّ الرئيس بأسلوبه الحاليّ غير قادر على صناعة الربيع
المواطن التونسي عاطفي انفعالي راقته خطابات الرّئيس و كلماته المزلزلة فانساق وراءها في البداية و لكنّه في اللحظة الحاسمة لا يعطي صكوكا على بياض و لا يمكن أن يساهم في مسرحيّة يعرف جيّدا أنها لن تغيّر شيئا من واقعه
و مخطئ من يقول بأنّ المعارضة هي التي أفشلت هذه الانتخابات فلو كانت لها هذه القدرة الخارقة على التّحشيد لما بلغنا الانتخابات منذ البداية، و مغالط من يعتبر أنّ غياب المال السياسي الفاسد هو السبب وأنّ هذه الانتخابات هي الأنظف على الإطلاق فهو بذلك يتجنّى على فئة كبيرة من المواطنين و يتّهمهم بالارتشاء و هذا ـ أي الادعاء باطلا و دون سند ـ جريمة يعاقب عليها القانون.
و قد نسي هؤلاء المفسّرون و المبرّرون أنّ الشعب و رغبات الشّعب في واد، و الرئيس و أحلام الرئيس في واد … و أنّ اهتمامات النّاس حاليّا اقتصاديّة و ليست سياسيّة و أنّه لا يمكن إقامة انتخابات في ظرف اقتصاديّ مماثل و في زمن يفتقد فيه النّاس أهمّ أساسيّات حياتهم و تلتهب فيه الأسعار بشكل غير مسبوق ، و أنّ المقاطعة قرار واع و مسؤول قال فيه جزء كبير من الشعب أنه لا يريد ما تريدون
لو كان للرئيس فريق ينصحه و مستشارون لهم قدرة على قراءة الأرقام و تحليل الرّسائل و تمحيص الأوضاع و استشراف المستقبل، لنبّهوه إلى ضعف المسار الذي اتبعه منذ البداية و إلى أنّ الطّريق الذي سلكه لا يمكن أن يبلغ به و تبلغ به تونس برّ الأمان منذ الاستشارة الهزيلة و الحوار الشكلاني الذي فرضه على طريقته و الدّستور الذي صاغه بطريقة انفراديّة و الاستفتاء الذي دعا إليه و صياغته المنفردة للقانون الانتخابي و تغييره لقواعد اللعبة برمّتها
إنّ الخاسر الأكبر في هذا المسار هو تونس و الشّعب التّونسي فإضافة إلى ضياع الوقت و الجهد ضاعت مليارات على هذه الانتخابات و على الاستفتاء قبلها كان أولى بها … التونسي الذي فقد ثقته في الوعود الانتخابيّة و في المسار السّياسيّ برمّته في ظل تدهور الأوضاع الاجتماعية و الاقتصاديّة
فهل يستفيق الرئيس و من يحيطون به من أوهامهم الكاذبة؟ و هل تعيدهم الأرقام إلى الواقع؟ و هل تجعلهم نسبة الإقبال الضعيفة يراجعون أنفسهم و طريقة تسييرهم؟ أم يواصلون إنكار الواقع و توجيه التهم إلى الغير وتخوين المقاطعين و تعليق الفشل على الآخرين؟؟