بنات أفكار

صالح السيد: فتنة السرد و تشكيل الحكاية … في رواية “طعم النوم”

نشرت

في

تشتغل عتبة العنوان في رواية “طعم النوم” للروائي طارق إمام على مذاق حسي ينفتح على احتمالات متعارضة: بين الانقطاع الناعم عن العالم بغية الراحة و السكينة والطمانينة والسلام ،أو الانسلاخ القهري عنه رفضًا لقسوته وعنفه واضطهاده والرهبة من  سوء المصير .

<strong>د صالح السيد<strong>

وتتشكل المغامرة الجمالية للروائي من خلال ثنائية فنية: تعمد الأولى إلى التقابل/التعارض مع السرديات الكبرى مثل روايتي “الجميلات النائمات” لياسوناري كاواباتا و”ذاكرة عاهراتي الحزينات” لغارثيا ماركيز وكذلك حكايات شهزاد في  ألف ليلة وليلة ،أما الثانية فهى ترتبط بالبنية الداخلية من خلال التناسل الحكائي،تعدد الأصوات،تناسخ الشخصيات،ظهور المؤلف كشخصية”ثقافية” تبدي ملاحظات نقدية لمخالفة الروايتين السابقتين    

يتسع الزمن الروائي ليشمل عدة عقود تقع بين حدثين خطيرين :الهزيمة العسكرية عام 1967م وانتكاسة الثورة الشعبية المصرية وحلقاتها الأخيرة عام 2014م ، وهذان الحدثان يسبغان هذه الفترة بالقتامة واليأس وهو ما ينعكس على بناءالمكان و يبرز طبيعة الشخصيات حيث تعيش حالات من الغفلة والسُبات والاغتراب والرغبة في الهروب من العالم .

ينفتح الفضاء المكاني في الإسكندرية ليشمل أحياءً مثل: المعمورة،العجمي،الشاطبي،سموحة،البيطاش  بميادينها وشوارعها،وعمارتها،ومقابرها،لكن الأحداث الخطيرة إنما تقع في الأماكن المغلقة؛ المستشفى، المصنع،البيوت /المنازل ،الغرف/الحجرات .

 كما تتمتع الرواية بخارطة شخصيات نوعية تفرضها طبيعة المروي السردي، ويحتل كبار السن من الرجال “الصحفي جبريل،صاحب المصنع،زبائن بيوت المتعة” والعجائزُ من النساء “روزا الكبيرة ،روزا الصغيرة أم شهرزاد، الخادمة دميانة ” صدارة هذه الشخصيات التي تقف دائمًا على مبعدة  من ذواتها الحقيقية، إنها تركض خلف ماضيها، تعيش حالات الندم والأمل ،الحسرة والرجاء،وكأنها  قلب السر في تجسيد أزمة الموجود البشري .  

ويمثل المسنّون من الرجال فتنة المدينة أو يقعون في حبائلها ، ويتصارع على السيطرة عليهم أو النيل منهم ثلاث قوى تعمل الأولى على غوايتهم وتمنحم الفرصة الأخيرة لمزاولة فحولتهم الغاربة بينما تسعى الثانية إلى  قمعها والكيد لهم، أما الثالثة فهى تمارس عليهم فعل الإرهاب عبر اختطافهم والمتاجرة بهم .

على النقيض من وضع الشخصيات النسائية في روايتي “الجميلات النائمات”و”ذاكرة عاهراتي الحزينات ” يمنح الروائي طارق إمام بطلاته من النسوة (روزا الصغيرة “مدام شهرازاد”،الفتاة شهرزاد )  سلطات مركزية تتمثل في :الأولى : فعل السرد “الحكي ”  فيصبحان أشبه بممثل  يجسّد  حضوره  بوسائل لغوية ومواقف فكريّة ولكنه  في كلّ الحالات يؤدّي لعبة معقدّة؛ ظهور، اختفاء، تصريح ،تلميح .أما الثانية : فهي المشاركة في التأليف حيث يشاركان الصحفي جبريل في استكمال مخطوط روايته التي يكتبها .

وعلى صعيد آخر يخالف الروائي طقس الحكي”الحياة/النجاة” عند شهرازاد “ألف ليلة وليلة: ،إذ أن بطلته ” مدام شهرزاد”  تمارس الحكي، من خلال فعل القتل،حيث  تدفع ضحاياها إلى العالم الآخر.

صورة المدينة :

تقع المدينة ـ الإسكندرية ـ في أحداث الثورة المصرية فريسة لصراع السيطرة بين القوتين المركزيتين:التيارات الدينية المتطرفة والسلطة الحاكمة ، ويتساءل الراوي  في جزع عن مصير المدينة في ظل هذا الصراع :” أي القدمين ستنتصر في النهاية لتكمل المدينة حياتها بساق واحدة ؟!”

وتصطبغ المدينة بروح الصراع وتفقد  سكينتها ووداعتها وتتحول إلى رمز عدواني” شفرة/سلاح” تعمل ضد الأحياء من أبنائها لكي تمارس عليهم التشويه  كما تصف مدام شهراز جسد الصحفي جبريل :

” هذه المدينة مُدْية مُشهرة،يتسلل النور عبر نصلها كلصّ ويبدو لها في لحظة أنه يبدأ العمل في جسده، كأن ذلك النور هو ما يمنح تشوّهه معناه ويجعل من الرجل الممدود بأكمله محض جُرح “

وبرغم احتفاظ المدينة بوجودها المادي الراسخ،إلّا أنها تفقد حضورها المعنوي الباذخ الأصيل، إذ تتحول في عقول و وجدان أبنائها إلى  مجرد مَعْبَر أو جسر لمدن أخرى أو عوالم جديدة :

” الإسكندرية شارع طويل وضيق بين بحر ومقابر ينتهي كل منهما عند مدن أخرى، على الأرض أو في السماء، الفارق ليس كبيرًا. لذلك نشعر نحن أبناء المدينة أننا لا ننتمي إليها إلّا بقدر ما نشخص خلف حدودها”.

فضاءات الحكاية:

يتشكل ويتوزع السرد في الرواية على ثلاثة فضاءات :الأول وهو فضاء الحكاية المثالية كما ينبغي ان تُكتب ويمثله المؤلف الذي يتجسد كشخصية ثقافية تكتب مقالات في الصحف و تمارس رؤيتها الفنية على روايتي كاواباتا وماركيز .

الثاني: وهو المسار الحكائي داخل إطار واقعية الحكي حيث يشتعل في تربة الحكاية صراع جماعي تمارس النساء فعل الغواية/القتل على الرجال،كما يخلق التناقض في طبيعة الشخصيات على المستوى الثنائي والفردي فجوة من التوتر في نسيج الحكاية.

الثالث: وهو فانتازيا الرؤيا التي تمتح من الأسطورة والخرافة والحكايات الشعبية وهو يتقاطع ويتعارض  مع الفضاء الثاني ويعمل على تحطيم هيمنة العناصر وسياقتها ويتلاعب بالزمن والمكان والحدث والشخصية بحرية مفتوحة . 

فضاء الحكاية الواقعية:

تلعب الغواية السلطة المركزية في هذا الفضاء ، وهي سلطة متبادلة بين النساء والرجال ، ولكنها ذات طبيعة مختلفة بين الطرفين ، فبينما تمارس النساء غواية جسدية/ حسية، يمارس الرجال غواية معرفية /سردية

 1 – غواية المرأة:

“روزا الكبيرة” و”روزا الصغيرة”/ مدام شهرزاد ،كلتاهما تتاجر بالمسنين من الرجال، فأما الأولى فتمنحهم  الروّاء، فرصتهم الأخيرة للتعبير عن رجولتهم، من خلال المنزل الذي تقيمه لهم “منزل العجائز” بينما الثانية على النقيض تذيقهم مرارة العطش،لا يملكون سوى مشاهدة العذارى من الفتيات وهن نيام دون مساس، حيث تقيم لهم “منزل النائمات”، وكلتاهما تمارسان القتل في حال مخالفة أوامرهما . وهما تتحركان على مسرح الحكاية بإيقاع سردي نشط، في حين أن الرجال ومسرحهم “الغرفة” يتحركون بإيقاع سردي بطيء جدًا.  

 ثمثل روزا الكبيرة الجيل الأول في الرواية، تعاني من التمزق النفسي لغياب ابنها محاربًا في جبهة القتال، وهي تجسد مأساة الهزيمة في الستينيات، وتتخذ قرار الانتحار في لحظة إعلان الهزيمة وخطاب التنحي وقد حملت معها  صورة الزعيم والراديو وألقت بنفسها من سطح المنزل .

تحمل مدام شهرزاد راية الجيل الثاني – ربما تمثل جيل الانفتاح في السبعينيات-  وهي تمثل الإنسان الصورة الذي يحاول توحيد ذاته المشتتة في أكثر من أنا، وكأنها جماعة تتصارع معاً، تعيش حالة من الانتقام الدائم   تجمع بين النقيضين ممارسة مهنة الرعاية الطبية والإنسانية “كممرضة” و كذلك احتراف القتل، كما أنها  تحب ابنتها و في نفس الوقت تدفعها إلى عالم متعة الرجال .

 2 – غواية الرجل:

شهرزاد الفتاة التي لم تنم أبدًا في بيتها و على سريرها – ربما تمثل الجيل الضائع من شباب الثورة – تقتحم بيوت الغرباء لكي تجد حيزا تنام فيه “فور أن يُفتح الباب كنت أعب، متجاهلة ذهول صاحب الشقة، المتيبس على عتبته، أفتش الغرف حتى أعثر على سرير خال، وحتى لو لم يتوفر واحد، كنت أتكوم بهدوء إلى جوار نائم. في تلك اللحظة لا يعود بوسع أحد أن يوقظني” .  

تقع هذه الفتاة في حب الصحفي العجوز جبريل –  و هو يتردد على منزل النائمات الذي تسكنه – وقد بدأت كملهمة له في كتابة روايته التي يسخّر كل حياته ويحتشد من أجل إنجازها، لكنها في النهاية تقع في غرامه  و تلقى مصيرها المشئوم .    

فضاء الحكاية الفانتازيا:

 على النقيض من الفضاء الأول ، يتحرر هذا الفضاء من القيود المكانية أو الزمانية أو محدودية  وعقلانية الأفعال ويكتسب طابعًا عجائبيًا ، يمتح من الخرافة والأسطورة ، وينسحب ذلك على الأشياء والأماكن والشخصيات .

 1 – قالمقعد الخالي في ورشة المصنع يمثل الثقب الأسود حيث يختفي من يجلس عليه  : “كان هناك مقعدان خاليان متجاوران هممت أن أجلس على أحدهما لكن واحدة من الفتيات نبهتني مفزوعة: “لأ بلاش ده.. اقعدي على اللي جنبه”.. وأكملت وهي تهمس في أذني :”أصل اللي بتقعد ع الكرسي ده بتختفي “.

2 – ويسترد الكتاب سلطته المهدرة فتنتفي مشاعيته ويتكرس وجوده فيصبح هو من يتخير وينتقي الشخص الذي يمنحه شرف المعرفة : “إنه الكتاب الذي يختار قارئه،كان الرملي محبطًا لأن كل من اشتروه أعادوه، حيث رفض الكتابُ أن يقرأوه، كانت صفحاته ملتصقة و يلزم لفتحه سكين أو مسطرة ككتب هيئة الكتاب زمان، وإذا رَفض الكتاب القارئ سيعجز الأخير عن فض صفحاته الملتصقة، حصلت مدام شهزاد على نسخة وعادت للبيت، انفتحت صفحات الكتاب معها بيسر شديد  “.  

3 – يتحول صاحب المصنع إلى أسطورة الرجل الخارق الذي لا يموت: “تقدم منّا أخرج منديله الكبير وفرده في الهواء ليبدأ فقرة اليوم السحرية. سمعنا صوت طلقة نارية ستظل آذاننا بعدها تعاني الصمم أيامًا. رأينا الثقب العميق في جبهته مكان علامة الصلاة الداكنة وخيط الدم اللزج يسيل طوليًا بامتداد وجهه. بعدها نهض مبتسما بثقة السحرة دون أن يلتئم الثقب أو يتوقف خيط الدم عن التمدد اقترب من قاتلته وقال لها:طلّعي الرصاصة من شنطتك دي عُهدة وضحك لمزحته” .

خاتمة الرواية:

تأتي نهاية الرواية تعبيرًا عن الإدانة الكاملة لهذا العالم الواقعي  حيث يقضي الموت على الشخصيتين الرئيسيتين، وتتولى  شهرزاد المهمة بمفردها، فتقوم  بحقن السائل السام في وريد الصحفي جبريل و في ذراعها أيضًا: ” تدس الإبرة في وريده وتشعر براحة الاقتراب من الموت، كأن السائل السام يجري في عروقها هي، وتشهر ذراعها أيضًا وتستقبل جرعة أخيرة حقنة لروزا، لتعبر العتبة الهشة نحو العالم الذي لا عجائز فيه”.

ومع تلك الظلمة و سقوط الستار يلوح ضوء خافت مع ميلاد طفلة جديدة، حفيدة شهرزاد، ابنة الفتاة التي اشتهرت بلقب الفتاة  النائمة: “غير أن المولودة تقف على قدميها و دون أن تنظر إليهما تتحرك صوب باب الغرفة المفتوح وتغلقه خلفها، قبل أن يسمعا انغلاق بوابة المنزل الحديدية”.    

  فهل الأمل في الفانتازيا ، وهل البعث لا يتأتى إلّا من عالم الحلم ، أو قلب الفنان ، وربما إجابات أخرى تشرق من  شرفات الرواية وعلينا مداومة التبصر بأرواح صادقة .  

_______________________________________

الهوامش :

1 – إنشائية الخطاب في الراوية العربية الحديثة : دكتور محمد الباردي

2 – المغامرة الجمالية للفن القصصي : دكتور محمد صلبر عبيد

3- حول بعض قضايا نشأة الرواية : د. امينة رشيد ،مجلة فصول ،المجلد السادس 1986م 

4 – قص الحداثة  : د. نبيلة إبراهيم ، مجلة فصول المجلد السادس 1986م  

تعليق واحد

صن نار

Exit mobile version