منبـ ... نار

صخـبُ اليسار في رواية “زهرة الصـبّـار” لعلياء التابعي

نشرت

في

  كثيرا ما يشتدّ الوجَعُ على مداخل الوطن … عادت الرّحلة وعلى متن الطائرة جيلان، الأبُ والابن، فهل هي عودة حقيقية من المنفى إلى الوطن أمْ هي مجرّدُ نُقلة، من منفى الخارج إلى منافي الدّاخل ؟؟؟ 

<strong>توفيق عيادي<strong>

  يبدأ القصّ بعد رحْلتيْن، ذهاب وعودة، وبيْنهما ترحال في وحْـل الأوجاع واسْترجاع لما كان من آمال وانكسارات وانتصارات .. هي عودة مليئة بـ”كثير من التّعب والفاتورات والأسئلة”، لتـُفتَح على إثرها الدفاتر القديمة وتـُطرح الأسئلة التي ظلـّت طويلا معـلـّـقة بلا أجوبة، وتزِفُ ساعة الحساب :”ماذا بقي؟” ، “ماذا ذهب مني  ومنك ؟” ، “وهل خسِرنا ؟” ، “ما الذي تغيّر؟” ، “ما الذي حدث؟” ، “وماذا بعد ؟” ، “من أين نبدأ الحكاية إذن ؟” … وما لم يطرح من الأسئلة أكثر بكثير مِمّا طُرِح من ثرثرة حول الحبّ والوطن.

 الحكاية إذن هي حكاية وطنٍ يتحسّس طريقه نحو التحقّق المستقل، بعد صراع مرير مع المستعمر، ويدخل في معركة البناء، مؤسسات دستورية، وقطاعات خدمية، وإعادة ترتيب للأحوال المدنية والشخصيّة، محاولات بكر و واعدة وجريئة، لا تخطئها العين التي تريد أن ترى. عَـزْمُ البناء هذا اِتـّخذ له من المدرسة قاطرة ومن “المادة الشخمة” رهانا، فنشأت معاهد وجامعات، أثمرت نخبة طلابيّة تونسيّة، توزّعت بين عاصمتيْن – تونس وباريس- ولم ينقطع بينها التواشُجُ، اِستئناسا بتجارب مختلفة، وتفاعُلا مع رؤىً عالميّة وإقليميّة وعربيّة .. فتكوّنت بموجب ذلك تيّارات و”خطوط” فكرية وسياسية متنوّعة ومتضاربة رغم اِدّعاء وحدة المصدر والمنطلق من جهة، أو تقاطع الهدف والمقصد من جهة أخرى، من أجل الإطاحة بنظام يوصف بالدكتاتوري الغاشم.

وكان “اليسار” أحد العلامات الفارقة التي اِفتتحت صراعا مع السلطة، ازدادت حدّته حين أعربت السلطة عن نية السيطرة والتوجيه والتحكم في المنظمة الطلابية (الاتحاد العام لطلبة تونس) من خلال التدخل في مؤتمراتها ومحاولات التنصيب لقيادات موالية لسلطة “حكومات الاستقلال”. واِنتهت ذروة الصراع إلى التعذيب والتجنيد والمحتشدات (رجيم معتوق) … لأنهم في تقدير السلطة، طلبة “مشاغبون” لم تغادرهم عين السلطة ولم تُـفْسِحْ لهم إلاّ بمقدار، وهذا شأن أيّة سلطة في كل المجالات، فالقول والفعل المضادّيْن لهما حدود، والسلطة أدْرى الناس وأقدرهم على وضع الحدّ. لذلك غالبا ما كانوا في نظرها مجرّد صبْيان، تـُعاملهم “مثل أطفال صغار لا يُمنعون من شيء أبدا، ولا يؤاخذون على شيء، والأدهى من ذلك: (لا يُسْمحُ) لهم بشيء أبدا”  بعبارات رولان بارت. كم هي موجعة ومريرة عذابات الترحال في القـَـصّ أو في الحلمأو في الواقع. وهل أمرّ على المرء من وقع الظلم، ظلم ‘الحبّ’ أو ظلم ‘الحُكــم’، “كالحامض ينهش كل ما يعترضه من قناعات ومبادئ وذكريات فيُبيدها”. وكمْ تأبى الذاكرة النسيان وتحِنّ إلى الأوطان، الوطن الأرض والوطن الحبّ. وعاد أحمد بعد رحلة تيْهٍ، أحسّ خلالها أن “الهاوية تحت قدميْه”، ليطرق باب الرّجاء مرّة أخرى …

  وقد خاب الرّجاء كـيْـفما ضرب أهله في الزمن و طوّحوا في الأرض، خيبة يتردّد رجْع صداها في صراع السلطة والحبّ والانتماء، وتـُـفصِحُ عنها نهايات دامية في شتى مجالات التجربة وأساسا منها العاطفية، “وقد دخل بعدها القلب في شتاء طويل” كما عبّرت عن ذلك رجاء. وليست “رجاء” إلاّ لعبة في تقدير أمّ أحمد، يلهو بها أحمد وعليه أن يحذر منها كيْ لا تـُلوّث أناقته أو يجرح النظر إليْها مطوّلا أهدابه الناعمة، أو توسّخُ أطرافه .. حتى لو صادف أن دمّرها أو ضرب بها عرض الحائط، فتتداعى وتسقط مفكـّكة، فعراقة العائلة ذات الأصول التركيّة، سليلة باشويّة مفاخِرة، وثراؤها الفاحش، يسْمحان للأمّ بأن تشتري له، بدلا منها أخرى، ترتضيها هي له وتتناسب مع العراقة العائليّة وتـُناسِبُ غروره. وإن أراد أن يختار له ما شاء من اللـُّعَـبِ التي في مستوى العائلة، لم لا؟ والطريق إلى باريس أمامه سالكة، و”اللعَب” البشريّة هناك لامعة وبراقة يخطف بهاؤها الأبصار … أمّا عن العلاقات الإنسانية، فلا يمكن أن تكون إنسانيّة، في نظر أمّ أحمد، إلاّ إذا نشأت بين عائلات برجوازية باذخة، يخضع كل شيء عندها أو يَـنتظِمُ وفقا لـِ”ايتيكيت”، تعبيرا عن الحياة الراقية أو عن “المَحْـتد الكريم” لأرستقراطية طيّبة بما يكفي من الوهم .. لكن لا تعوزها القدرة على تدمير الآخرين ولا يُضيرُها ذلك في شيء طالما أنهم من طبقات “الما دون”. وليس مثل هذه المشاعر والمواقف إلاّ تأكيدا إضافيا على هشاشة الروابط الإنسانية في مجال الحبّ كما في مجال السياسة.

     لقد طال الدّمار أعماق رجاء وكل أطرافها وأتى على الكثير من مساحات أحمد العاطفية والاجتماعية- الطبقية، بقدْرٍ أجّج داخِله الحقد على أمّه البورجوازية ربما بنفس مقدار حقده على “عادل” الثوريّ .. هزائم الحبّ والسياسة أخذت من كليْهما مأخذا عميقا، ولم تعد رجاء تدري أيّ الألوان “سيختاره تاريخهما لتحديد نقطة الهزيمة في حياتهما” المليئة بالأوجاع من فرط انكسار الحبّ وانحدار السياسة. وهي التي دلفتْ لليسار من أبواب الحبّ لا من نوافذ السياسة وهذا اعترافها – اعترافٌ لا يُنـْقِصُ من قيمة الحبّ ولا يُعلي من شأن السياسة –  حين تقول “وجدت نفسي في السياسة، في صفّ اليسار عن قلب قبل أن يكون عن وعي … وجاء الصحْو رويْدا رُويْدا، فإذا اليسارُ ليس بقلب مَحضٍ، وإذا اليسار جعْجعة وكلام يُـلقى لا يُلزمُ أحدا، وإذا اليسار موقف تمثيليّ، قبل أن يكون موقِفا من الذات، ومن الوجود. وإذا اليسارُ ليس بنقضٍ للمسلـّمات والاتّباعية، بل وكذلك سقوط وإحباط وخيانة رغم ضخامة الكلمة المضحكة”.

كم هو موجع أن تكون تلك هي صفات اليسار في أعيُن الشابّات والشبّان الذين بذلوا الكثير من الجهد وشيّدوا الكثير من الحلم وعقدوا الكثير من الأمل والعزم منذ عقود، والموجِع أكثر أن ينكسِر كل ذلك أمام أعْيُنِ كلّ “شيوخ الطرق” و”الطوائف” اليسارية، ولا حراك ولا حياء. وكأن قدَرُ اليسار المحتوم أن يظل كذلك، اِتباعية مقيتة واِنحياز أعمى وجعجعة فارغة وثرثرة بلا هوادة، يمقت بعـضه بعـضا ويُدمّر بعـضه بعضا رغم وشائج الحبّ ووحدة جذور الانتماء. ذلك هو حال “زهرة الصبّار” بعد أن نفد صبرها على الهوان وانْكسرت حبّات رحيقها وتناثرت أشلاء (عادل وأحمد ورجاء). ألمْ يقلْ أحمد في “حبيبه” عادل : “كنت أحبّه أكثر من أيّ إنسان آخر وأكثر منكِ أحيانا ولكني كنت كذلك أمقته كما لم أمقتْ كائنا. كان جزءا منّي لا بدّ لي من تدميره لأعيش فقد كان مختلفًا إلى حدّ الخطر والإزعاج”. وكأن المختلف في بعض عقليات اليسار لا بدّ له أن ينتهي حتى وإن كان “رفيقا”. 

  ذاك هو اليسار في تقديرعلياء التابعي ومن خلال شخصية “رجاء” في لقاء المحاسبة بينها وبين أحمد. يسار قاصر وعاجز في ‘أبجديات’ الحب كما في ‘أدبيات’ السياسة. فتجربة الحبّ فاشلة وتجربة الحكم مؤجلة .. وكأن هذا اليسار لم يفهم بعد “أن الحياة تكره البطولات الزائفة” وأن الأحلام التي يستعصي تحقيقها دفعة واحدة، ويظل صاحبها يحاول ويراوح بشكل سيزيفيّ دون أن يغيّر من نفسه ومن أدواته أو من أهدافه، هي محض أضغاث أحلام ترتقي يقينا إلى رتبة أوهام، وشأن الأوهام أن تـُوَلـّـد أوهاما جديدة دون أن يتحـقـق منها شيء. وهذا شأن عادل -كعضو في تنظيم- وبشهادة أحمد ذاته حين يقول عنه :” لم يكن يختلف عن أمّي في شيء وخاصّة في العمى”. عمًى متبادَل تُمثّله أم أحمد سليلة العائلة البرجوازية من جهة ويُمثله عادل من جهة التنظيمات اليسارية. ذلك هو تقاطع الأضداد كما عبّر عنه أحمد، “عَـفـَـنُ البورجوازية” و”صلف اليسار”.

 ما أحوجنا اليوم إلى “استقلالية” رجاء، تعبيرا عن يقظة الذهن ونماء الروح النقدي وتغاضِيًا عن التفاصيل المُعيقة التي تَحوّلَ اليسار بموجبها إلى سلاّتٍ عديدة يصُحّ تشبيهه بـ “يسار الطوائف”، ولكلّ طائفة أسفارها أو مسلـّماتها التي تخصّها اِنتماءً واِدّعاءً. وكثيرا ما كانت رجاء تلوم عادل “على رزمة المسلـّـمات والبديهيات التي يحملها فوق ظهره”، مسلـّمات غذتْ لدى منتسبيها تضخّم الذوات وأوهام امتلاك الحقيقة المطلقة والأبدية ورسّخت لدى الكثيرين منهم، الاعتقاد – على لسان رجاء- “أننا أحسن ما أنجبت البلاد والبقية هوامّ ورعاع لا يعقِلون”. هو توصيف واِدّعاء لا يخلو من الغرور، بل هو غرور لا يقلّ مرتبة عن الغباء الذي يستمر إلى الآن، كما أعلنت ذلك الكاتبة على لسان رجاء وبشيء من الاستنكار والتعجّب : “عادل بصراحة، أكره الغباء واليسار عندنا غبيّ … إلى حدّ الآن. وأخشى يوم المراجعات والحسابات … يوم نذرف الدمع على الوقت المهدور في الجدل العقيم والولاءات الزائفة”.

هذا الروح النقديّ الذي تسميه رجاء حينا بـ “الفوضى” وحينا آخر “تعرية”، هي فعلا تعرية لا تخصّ عادل وحده كتنظيم، وإنما هي تعرية تطال كل التنظيمات اليسارية بغاية دفعها نحو إعادة قراءة “الواقع المتفجّر” على غير الطرق الآلية المستوردة “من الصين أو من الاتحاد السوفياتي أو من ألبانيا، وليس لنا أدنى شرف في نحتها بل شرفنا في ترديدها وعبادتها”. وما الترديد والعبادة الجامدة بالشرف الحقيقي في تقدير رجاء، بل الشرف في أن نظل متيقظين ومتحفزين وجادين في مراجعة مفهوم الواقع أصلا والعمل على معاودة فهمه وفقا للمتاح من الموادّ والأدوات والممْكِـنات. وكأن دعوة رجاء ‘المستقلة’ هي دعوة “المستقلين” إلى كل “الطوائف اليسارية” الذين أغفلوا الكثير من المشترك الأعمّ واِهتمّوا بالكثير من التفاصيل، إغفال فسُدَ معه الوضع وساءت الحال، أن يثوبوا مجدّدا إلى الرشد وأن يعتقوا حق الأجيال في الحلم ويكفوا عنهم كل ضروب الكوابيس والأضغاث والأوهام.

  يبدو أن نصّ رواية “زهرة الصبّار” هو نصّ، ربّما يُدرك قارئه أكثر من كاتبته أنه لا يزال يحتفظ بألقه، حتى لكأنه كُتِبَ لغير زمانه (سبعينات وثمانينات القرن الماضي)، أو هو كـُتب للتعبير عن زماننا أكثر من التعبير عن زمانه. فكلما أعيدت قراءته نكتشف معه عُمق الرّوابط التي تشدّه إلى الحاضر اليوم، سيّما إذا تعلّق الأمر بوضع “طوائف اليسار” ذلك اليسار الذي قالت عنه رجاء وبصيغة الجمْع : ” نحن لم نتحوّل، نحن نقِف منذ سنوات في نقطة الانحدار”. وهل تعلم رجاء – ومن خلفها علياء التابعي- أن اليسار كما عهدْته منذ عقود هو لم يتحوّل ولم يتغيّر، وأنّ ما تغيّر هو نقطة الوقوف، لكن نحو مزيد من الانحدار، وفي غفلة حقيقية عن مستوجبات أو نداءات الوطن.  

كم هو محزن حال هذا اليسار، بين دفـّـتيْ هذه الرواية وفي كل فصولها، أو بين ضفّتيْ واقع البلاد قبل “الثورة” تماما كما بعدها، الهزائم ذاتها والانكسارات ذاتها. رغم مقدار التضحية وشدّة العنفوان ومنسوب الأمل البدئي وفائض الحبّ للوطن والأهل. تجاربٌ تنتهي دائما إلى المتشابه من النتائج، “ليتعمّق الشعور بالقهر” بعدها. لا أحد يدري هل هي سذاجة السياسيّ أم هو اِستكبار ‘المثقف’ أم تراه عُـتـُـوّ المُرْسَلين، وقد كانت نبّهتهم رجاء إلى ” أن الوحي لا ينزل علينا وأننا لسْـنا فوق الشبهات” والأخطاء والحسابات. كأن رجاء تريد أن تقول لنا: إن الذي يعرف جيّدا ما يريد ولا يعلم كيف يبلغ ما يريد ستكون خسارته مضاعفة وينفضّ عنه الذين من حوله. وهذا ما كان يحدث باستمرار، مناوشات هامشية مع سلطة متمترسة ومتغطرسة تنتهي بالكثير من القرابين الشبابية على عتبات غرف التعذيب أو عنابر السجون أو متاهات البطالة والمطاردة والفرز .. وكثيرا ما بقي اليسار يُحصي ‘خسائره’ دون أن يكفّ عن “الغباء”  حسب توصيف رجاء أو عن “الأعمال الطائشة” التي انتهت به إلى خسران مبين، كثيرا ما عدّدتْه رجاء وأعْياها حمله لِـثِـقـل الحزن على ما ذهب منها وتفرح للقليل الذي بقي لها ” ذهب الحبّ، ذهب الصديق، ذهب الزوج، ذهب الطفل، ذهب الإيمان … وبقي البحر”. لكن رغم فداحة الخسائر فإن الذي بقيَ لها ولنا، حلم بحجم البحر أو هي سِعة لا تضيق على أحدٍ أو هو امتداد لا يستعصي على آمل، بل هو وطن جدير بكل التضحيات مهما علا شأنها في نظرنا أو مهما مسّنا منها الضّرّ، وطن يعسُرُ أن تبنيه الطوائف بشتات من البصائر والأفكار … 

 ويبقى الوطن هو الوطن  ويظل  الجميع أبناءه مهما اختلفوا ومهما تقطعت بأصحابها السّبل وتشتتتْ شعابا، فلا أنوار باريس قدرت على ردْم الهوّة السحيقة تحت قدميْ أحمد ولا ثلج اِنكلترا كان قادرا على وقفِ نزيف المعنى عند رجاء. وحدها أرض الوطن كفيلة بتضميد الجراح، في العاصمة أو في صحراء الجنوب أو في مكثر سليانة حتى وإن كانت من المناطق المنسية في هذا الوطن .. ومهما بلغ عمق الجراح بأصحابها، ومهما بلغت قسوة الشُذّاذ على الوطن ودفعت أبناءه للانتحار، لن يخيب الرّجاء مطلقا. وستأتي بطاقة التهنئة إلى ‘رجاء’ لتعيد لها الأمل في الحب والوطن والحياة، “ويرجع كل شيء إلى مكانه الأصلي”، بطاقة كتِب عليها بخط واضح وفصيح :”غدا فجر يوم جديد”.

إذا كان فِعْل القراءة هو محاولة اِكتشافٍ وسعيٍ لاِمتلاك الحقّ في الفهم والتأويل، فإن التعليق على النص المقروء يظل أسيرا لما يسْمح لنا به الفهم وما تطيعنا فيه اللغة. ولذلك أنصح بقراءة نص رواية “زهرة الصبّار”، مع ضمان قدر من المتعة.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version