جور نار

صفاقس … إلى أين تريدون أن توصلوها؟

نشرت

في

وأخيرا حصل ما كنا نخشاه …

اشتباكات بين مواطنين من صفاقس ومهاجرين غير نظاميين من وراء الصحراء تسفر عن مقتل أحد التونسيين … ومع الترحم على الضحية وتعزية أسرته، نقول هذه للأسف مجرد بداية لمسار يصعب التكهن بمآلاته … مسار سوء تركناه يجري على هواه وكأنه لم يكن يعنينا …

<strong>عبد القادر المقري<strong>

منذ أشهر، بل منذ سنوات، قل منذ عقود، وصفاقس الكبيرة العاقلة الحليمة تستنجد بنا صارخة أنا منكم، أنا لحمكم، أنا جزء عزيز من أرضكم، أنا ابنتكم النجيبة التي ما تخلفت عن واجب دراسي أو مهني أو استثماري أو حتى ثوري لمكافحة أي خطر يهدد هذه البلاد … سواء كان الخطر فقرا أو جهلا أو استبدادا … ولسنا هنا في معرض أفضال صفاقس والصفاقسية على وطنهم تونس، فهم أعفّ من أن يذكّروك بذلك في الصباح وفي المساء … ولكن ليعلموا أن في البلاد ذاكرات تدوّن وتعترف، وأنهم ليسوا وحدهم وإن تجاهلهم أولي الأمر …

الآن وصلت صفاقس إلى مرحلة “لاتسقطوا غصن الزيتون من يدي” … وهي تقولها بلهجة ياسر عرفات الحازمة وعينه المحمرّة تعبا وغضبا … لم نستفض في ذكر أيادي صفاقس البيضاء، ولكننا مجبرون على أن نذكر بعضا من معاناة هذه الجوهرة التونسية المنسية ولا أدري من أين أبدأ … هل بمأساة التلوّث الذي شطب المدينة من قائمة المدن الشاطئية؟ … هل بمعضلة النقل التي جعلتنا نؤسس هناك شركة مترو وندفع أجور موظفين وامتيازات مدراء، والحال أنه “ماعنديش تلفون” كما يقول عادل إمام، فلا وجود بعدُ لمترو ولا لـ “مليمترو” … هل بفضيحة القمامة التي تراكمت على الشوارع والصدور دهرا كدنا ننساه؟ … هل بهذا الحشد العظيم من المهاجرين غير النظاميين الذين يضبطهم الحرس البحري عند كل طلعة … وبدل إيقافهم والتحقيق معهم يطلق سبيلهم أحرارا في شوارع عاصمتنا الثانية؟ …

جريمة السلطة المركزية عندنا أنها تقول كثيرا ولا تفعل إلا قليلا، بل لا تفعل أي شيء … لامبالاة عجيبة غريبة طالت كل مناحي حياتنا إلى درجة تجعلك تسأل باستمرار: هل هناك ربّان في الطائرة؟ … مشكلة المهاجرين الأفارقة بوجه عام ووضعهم في صفاقس خصوصا، لم يبق أحد لم يتحدث عنها ومنذ سنين … ومع ذلك ما روقبت حدود، وما حوسب متواطئ، وما نوقش جار … بل والأهمّ، لم يقع اتخاذ أي إجراء وقائي أوعلاجي بشأن هؤلاء الأفراد والجماعات التي تسرح في فضائنا دون صفة أو هوية أو إطار قانوني ما …

بالأمس القريب كان المرور من ولاية لولاية يتطلب سينا وجيما … وكانت الدوريات تفحص أوراق أي مار في الشارع بعد العاشرة ليلا … وكان حرس المرور يعطّلك ربع ساعة وأكثر إذا كنت على متن شاحنة خفيفة أو سيارة كراء أو عربة إدارية بحسب الإشارة الآتية من غرفة العمليات … ولا يأتي الفرج غالبا إلا بعد أن يصرح كمبيوتر بوشوشة بأنك بلا شبهات … حرس مرور، أمن عمومي، حرس ديواني، شرطة عسكرية إلخ … كنّا نتضايق وقتها ونقول نظام بوليسي ولكننا اليوم نترحّم على بن علي ونشهد له بوطنية عالية وحرص على سلامة البلد التي راحت الآن في خبر كان …

واليوم إذ تُرك الحبل على الغارب ودخلنا مرحلة دفع الثمن، وصرنا شاهدي زور على ضياع مدينة كمقدمة لضياع باقينا، تتبدّى في الأفق سيناريوهات كل منها أحلك من الآخر:

  1. يضيق صدر الصفاقسية بما يسلّط عليهم ويقررون أخذ حقهم بأنفسهم … مع الأغراب من جنوب القارة أولا بما يعنيه ذلك من عنف على شاكلة مبليشيات الطوائف اللبنانية في سبعينات وثمانينات القرن الماضي … وقد يتحول ذلك إلى كرة ثلج تطال أيضا كل من هو غريب عن المدينة، بمن فيهم التونسيين، بمن فيهم حتى أبناء نفس الولاية.
  2. أو يتضامن باقي التونسيين مع مواطنيهم الصفاقسية بنفس الأسلوب … أي ميليشيات عنيفة منظمة تقتل على الشبهة وتدخل في دوامة عنصرية واستهداف أعمى لابناء القارة وحتى التونسيين من ذوي البشرة السوداء …
  3. أو يتطوّر ذلك إلى إخراج بالقوة لآلاف الأفارقة من التراب التونسي في اتجاه أراضي الأجوار التي جاؤوا منها، مع مخاطر صدامات مسلحة على الحدود مع الجزائر وليبيا …

وحتى لانصل إلى دوامة الشرّ هذه، على السلطات أن تتحمل مسؤوليتها عاجلا وتجد حلولا على الأقل كالتي وجدها غيرنا في مثل هذه الحالات … كأن تقام مخيمات ويتم تسخير مؤسسات تربوية وشبابية هي الآن في عطلة، ويتم فيها تجميع الذين لا صفة قانوية لهم في بلادنا … تجميعا مؤقتا قبل دراسة حالاتهم بالتدقيق وتقرير ما يلزم بعد ذلك … شرط أن يتم ذلك في أمثل الظروف القانونية والإنسانية وبالتعاون مع الهيئات الأممية والإغائية المتخصصة في الغرض …

وقبل ذلك وبعده … على رئيسنا أن يمسك لسانه عن أي زلل،.. وأن يُفهِم الجميع في الخارج والداخل، وخاصة يُقنع نفسه، بأن حدود تونس ومن يعيشون داخلها، هم بأرواحهم وكرامتهم وأرزاقهم وطيب عيشهم، أمانة في عنقه سيُسأل عنها في الدنيا قبل الآخرة … و”حساب الدنيا” هو يعرفه جيّدا كرجل قانون.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version