ما يزال زوار مراكز الطفولة، أو مقدمو برامج الصغار، أو ضيفة جاءتكم للدار على غفلة و وجدت في العائلة صبيا يكاد يقلب بيت الصالة … ما يزال جميع هؤلاء يلاطفون الولد بالسؤال نفسه: ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟ و بعد لأي و تجبُّد و نظرات مترددة يمينا و شِمالا، و غالبا ما تأتيه النجدة من أمه الطائرة فرحا و فخرا، يجيب الطفل: طبيب، مهندس، بيلوت …
هذا هو حلم أمهاتنا بالمستقبل الأفضل الذي يرونه لنا … و معايير اختيارهن هي متطابقة مع نظرة التونسي عامة إلى العمل: كثير من المال، قليل من الجهد، حد أقصى من الوجاهة، أنت سيد نفسك … كم كان الوهم ممتعا … و كم نعتذر لوالداتنا عن خيانتنا للحلم الجميل، و سلوكنا مسالك أخرى هي أقرب إلى مهنة عبد الحميد الكاتب منها إلى البيروني و الخوارزمي و الرئيس ابن سينا … و لكن لا عزاء للأمهات، فالمهن التي تمنّينها لنا و لم تتحقق، لم يبق لها من الألق ما يجعل تلميذا يشقي نفسه للوصول إليها، أو عائلة تقول في بيتنا نابغة …
و ليسأل السائلون اليوم أطباء الصحة العمومية عن ظروف العمل البائسة و معاناة الخطر كل ليلة و حالة الكرب في مستشفياتنا مع هزالة الراتب نهاية كل شهر …و ليسألوا أيضا حاملي شهائد الهندسة المشتتين بين البطالة و الهجرة و بؤر الإرهاب … و الطيارين في الخطوط التونسية الأشبه اليوم بالخطوط المسمارية المنقرضة …
الدنيا تتغيّر و الأحوال تتقلّب … و مهن اليوم غير مهن الأمس، و التكنولوجيا فرضت اختصاصات لم يكن لها وجود منذ ثلاثين أربعين سنة … و لو سئلت أم “زوكيربيرغ” وسط الثمانينات عن آفاقها لابنها، لقالت رائد فضاء أو مدير بنك أو ما قالته أمهاتنا رافعة عينيها إلى السماء … و لكن ها أن الولد اليوم “يخيّب” ظن الحنينة و لا يصبح طبيبا و لا “جنيور” أشغال و لا شيفور طيارة كما قالت عمتي … لم يصبح صاحب “فيسبوك” شيئا من هذا، و لكنه صار مع ذلك مالكا لسطح الأرض و أسقف السماء …
ذلك في أمريكا … أما في كوكب تونس الذي لم يصل إليه بعدُ مسبار “برسيفيرانس”، فإن ترتيب المهن و عوائدها و نعيمها و أمجادها، يختلف عما تعرفه البشرية … في بلادنا لكي تنال أغلى الأمنيات، و تعمل “قَصة” عربية بكل الذين أفنوا العمر و العينين قراءة و كتابة و امتحانا تلو امتحان … لكي تصعد إلى القمم، كن واحدا من نجوم الأحزاب القوية أو المتقربين منها، تهتف جيدا في الحملات، تصرخ عاليا في البلاتوهات، تردّ على مناقشيك بأقذع النعوت، تدافع عن ذوي النفوذ و لو بالكلاشنيكوف، تتاجر بصوتك في البرلمان، تقلب جمّازتك بحسب اللون السائد، تقول عن الحق إنه باطل و عن الباطل عين الحق لو كانت الريح تهبّ في ذلك الاتجاه … افعل هذا، تجد نفسك سيد القوم دون حاجة إلى أن تكون خادمهم …
لا أمن يوقفك، و لا قضاء يحاسبك، و لا إعلام يفضحك، و لا مأمور ضرائب يحصي مداخيلك، و لا هيئة مكافحة تقول من أين لك هذا، و لا لجنة امتحان تعصرك أربع ساعات لتهبك علامة نجاح أو سقوط، و لا تعب يوم و حضور في عمل و أنت معفى تماما من الحضور في المجلس، و لا سهر ليال عدا في الملاهي أو في “الغرف المظلمة” كما قال الآخر، و لا ذهاب و إياب حتى تحفى ساقاك وراء إدارة … اللهمّ إلا إذا كانت سفارة أجنبية من المستحسن أن تكون لدولة أغنياء أو من القوى العظمى …
و في أسوإ الحالات و عندما يزيحك الغربال ـ مؤقتا ـ ذات مرحلة و ضمن حسابات معينة و محاصصات، ثق أنك واجد مكانك محللا سياسيا سمين الأجر في إذاعة أو قناة كما حصل مع كثيرين … في انتظار أن تعود إلى ساحة الحُكم عمّا قريب، كما يعود مدرب كرة إلى الميادين معززا مكرّما، من باب التحليل الفني في البرامج الرياضية …