لفت انتباهي منذ أيام صديق ثقة، و هو يعلق على دفاع منجي الرحوي المستميت عن قيس سعيد ورسالته العجيبة، و التعليق كان في ثلاث كلمات: “و أنت اشمدخلك؟” … و عندما سألت الصديق عن موقفه الجاف من نائب يعتبر نفسه الوريث الشرعي للشهيد شكري بالعيد، أجابني: لو كان فعلا من أبناء الوطد الصحاح، لما ساند هذه الدروشة المتقمصة للأسف مسوح الرئاسة، و لما دافع عن رسالة منحدرة من فيلم “الرسالة”، و ما فيها و فيه من مضامين سلفية تتماهى مع خطاب أنصار الشريعة … فضلا عن أن صاحبها يثبت يوما بعد يوم أنه يفكر تفكير تلك الملّة …
و أضاف الصديق: ليس مطلوبا من الرحوي و أمثاله أن يفتحوا جبهة ضد سعيّد، و لكن أيضا ليس مفترضا فيهم المحاماة عنه فلا نسبة بين الرجلين ولا مناسبة، و هات لي مرة واحدة تبنى فيها ساكن قرطاج (كما يقول محمد الأطرش) ملف اغتيال رمز الوطد و شهيدها، أو كان ممن أحيوا ذكرى اغتياله حين مرت منذ أسبوعين … إذن، يصبح من باب حشر الأنف أن تدخل في معركة ليست معركتك، و أن تصطف مع شق ضد شق من نفس الفريق الذي يعاديك … وأن تغترّ بما يعبر علاقة أفراد تلك العائلة من خلافات …
صُدمت صراحة و أنا أسمع كلام صاحبي … و عبّرت له عن ذلك فقال: هل رأيت رئيس الدولة و رئيس البرلمان يختصمان مثلا في موضوع الإرهاب؟ أو في موضوع مدنية الدولة؟ أو في العلاقة بدولتيْ قطر و تركيا؟ أو في إعادة فتح سفارتنا بسوريا؟ أو التعامل المتساوي مع فتح و حماس؟ أو مع غرب ليبيا و شرقها؟ أو في الاقتراب من الجزائر؟ و لا أحدثك عن ملف الجهاز السري الذي تركه الباجي و دفنه سعيّد … تماما كما فعل مع تقرير لجنة الحريات الفردية و المساواة الذي عارضه المتشددون دينيا، و منهم الرئيس الحالي الذي تخلّى وقتها عن كسوة أستاذ القانون ليلبس جبة المفتي بالشريعة ! …
قلت له: نعم أذكر تلك الحادثة الطريفة، و أذكر حتى أنها حولته من مواطن بسيط إلى “عصفور نادر” اصطفاه مجمع الإسلام السياسي ليوصله إلى قصر قرطاج …
فأضاف صاحبي: وحده اليسار أو أدعياؤه عندنا، من عميت ذاكرتهم و تناسوا هذا، و استمرّوا بمهارة كبار الطهاة في الطبخ لغيرهم، أتذكر 18 أكتوبر 2005؟ …
أجبته: ذلك الاعتصام الذي جمع حمة الهمامي بسمير ديلو بنجيب الشابي؟ و من ينساه؟ …
قال لي: أهمّ من الاعتصام كانت تلك الصورة الجماعية التي طافت العالم بأسماء المعتصمين و صفاتهم … و قد كانت عبارة عن صك ضمان بأن الإسلام السياسي التونسي يستجيب لـ “كراسة الشروط” المدنية والديمقراطية و السلمية إلخ … و أنه متطور عن نظرائه في مصر و غزة و أفغانستان و غيرها، و أنه يمكن التعامل معه … و هذا هو الأهمّ …
قلت له دعنا الآن من تأريخ العمل السياسي في تونس، فهذا يملأ مجلدات، لننتقلْ إلى الحاضر …
أجابني: نأخذ أمثلة مما حدث بعد 14 جانفي … منها مثلا اعتصامات القصبة 1 و 2، أرأيت كم كان دور اليسار فيها كبيرا؟ … فماذا كانت مطالبه؟ …
قلت كانوا يطالبون بدستور جديد و انتخاب مجلس تأسيسي …
سألني: و من فاز في تلك الانتخابات؟ و على قياس من فُصّل الدستور؟ و كيف تعامل الإسلاميون مع من خدموهم في 18 أكتوبر و غيرها من المحطات؟ …
أجبته: هذه ثلاثة أسئلة، أرد عليك بالترتيب و باقتضاب:
1) النهضة
2) النهضة
3) بالسبّ و التكفير
فواصل صديقي: مع العلم أنه بالتوازي مع اعتصام القصبة، أسس اليساريون روابط حماية الثورة حتى اشتد عودها … قبل أن يتركوها لخصومهم الذين حوّلوها إلى وبال على أي نفس تقدمي أو نقابي أو مدني، و أوّلها اليسار نفسه …
قلت له: و لكن هل تلوم النهضة على فرض نفسها في الساحة؟ أليست تلك قوانين اللعبة؟
قال صديقي: لا ألومها و ليس موضوعنا النهضة الآن … المشكلة في هذا اليسار الذي ترهل و تهلهل حتى صار تقريبا لا شيء في مشهدنا … لا بسبب منافسيه و خصومه، بل بيديه الاثنتين، لا يعرف سوى الانقسام و التشظي و التذرر، و لأسباب معظمها في علاقة بالنرجسيات و الزعامات و الأنانيات … و يوجع القلب ما يحدث حتى في منظمة شبابية عريقة كالاتحاد العام لطلبة تونس …
سألت: أنانيات؟ كيف ذلك و باختصار أرجوك …
قال لي: فقط أطرح لك مثالين … الأول حين عُرض على الرحوي منصب وزير لكن رفاقه في الجبهة الشعبية اعترضوا على ذلك و نصحوه بعدم التسرّع، فماذا فعل؟
قلت: نسف الجبهة الشعبية من أساسها …
عقّب صديقي: رغم أنها من إرث شكري بالعيد الذي يزعم الرحوي خلافته … هو يلعنها إلى اليوم على تضييع فرصة له لن تتكرر …
و المثال الثاني: سمير الطيب الذي استقال من رئاسة حزب المسار (سليل الحزب الشيوعي التونسي العريق) و تحوّل إلى الليبرالية فكرا و تنظيما وراء “الأمريكي” يوسف الشاهد … تتحدث عن النهضة؟ أبناء النهضة لا يفعلون هذا حتى لو شنقهم الغنوشي … لذلك لم تنشطر تلك الحركة مهما تظاهر أفرادها بالاختصام … ويوم يقبلون بمناصب، فيكون ذلك ضمن محاصصة لحزبهم و وفق خطة معلومة …
في النهضة لا يمكن أن يتخلى فرد عن فكره (الظلامي، قل ما شئت) لأجل منصب … بينما حسين الديماسي انقلب على ماضيه النقابي بمجرد أن أمسك وزارة لمدة أشهر قليلة، و صار من أشرس خصوم الاتحاد والمدافعين عن خيارات صندوق النقد الدولي … يعني سمير الطيب في نسخته الاتحادية … دون أن ننسى بن سدرين، العياشي الهمامي، العميد الكيلاني المحامي، رضا لينين و رشيدة النيفر … جميعهم تحوّلوا في فترات إلى خدم لدى خصوم معلنين للفكر التنويري و حتى للدولة المدنية …
فقلت ثانية: و هل لهذا السبب يصطف بعض يساريينا اليوم وراء من يعادون عبير موسي إذن؟
أجابني أخيرا: بل لأنها ليست في السلطة، و قد يتغير موقف هؤلاء منها يوم تصعد إلى حكم البلاد …
لم أجد ما أضيف … فهذا جيل رديء من المحسوبين (حقا أو باطلا) على فكر لامع أحدث ثورة حقيقية في العالم طوال المائتي عام الأخيرة و ما يزال … و لنا فيه قامات و روّاد، و لكن يبدو أنها النار التي تخلّف الرماد …