يوم أمس، أحيا الفلسطينيون و أحرار العرب و العالم ذكرى يوم الأرض … في إشارة إلى يوم 30 مارس 1976 حين لم تكتف دولة العدوّ الصهيوني بما اغتصبته سابقا من أرض فلسطين بل عمدت إلى مصادرة آلاف الهكتارات الإضافية من أراضي الفلاحين … و كان أن ثار عرب الداخل لأول مرة منذ الاحتلال ثورة عارمة سقط فيها شهداء و أصيب و اعتقل المئات … و بقي موعد الثلاثين من مارس من كل سنة، تذكيرا مزدوجا بمن واجه و ما صودر …
تلك مشكلتنا مع إسرائيل، دولة تسطو على حقوق أشقاء و تمارس معهم أبشع السياسات … و كان يمكن أن يكون مقدورا على هذه المشكلة لو وجد الفلسطيني وراءه ظهرا يسنده كما للعدوّ ظهور و صدور تحميه من كل النواحي …
الشعبالفلسطيني عاري الظهر، لأنه من سوء حظه يستند إلينا نحن، و نحن لا نفوته إلا بالصبر كما يقال …
إنّا هنا، على مبعدة 3500 كيلومتر من الأشقاء، نعيش في بلد حكوماته المتعاقبة مبنية على الاغتصاب بأركانه الثلاثة: الزجر و المصّ و الرفس …
حكومات تونس متخصصة في الزجر و كل تشريعاتها، من القوانين الأساسية إلى الأوامر الرئاسية إلى المناشير الوزارية إلى مذكرات العمل إلى البلاغات المحلية إلى قرارات الرابطة الوطنية لكرة القدم … كلها تقريبا تبدأ بـ “يُمنع” و “يُعاقَب” و “لا يمكن”، و تنتهي بـ “تُسلّط على” و “يُحتفَظ بـ.. ” و” يحال إلى” و “يُخصم من” و “يودَع في” و غير ذلك مما يضعك على مسافة شبر واحد من شفرة المقصلة …
و حكومات تونس متضلّعة في المصّ أكثر من المكانس الكهربائية الأشرس نجاعة في الكون … جميع قوانين ماليتها تستمد مواردها من الضرائب على الأفقر و الأشدّ فقرا … و كلما قيل لها هذا كثير، أجابت: طيب، ثم زادت فضغطت أكثر على عصّارة الطماطم … و في منتصف الطريق و عندما يصيبها عجز لسبب داخلي أو عالميّ ما، عاجلتك بـ “قانون مالية تكميلي”، أشنع من الأصلي و أشدّ إيغالا في سحق الطبقة الوسطى التي صارت أتعس من إفريقيا الوسطى …
يتحدثون دوما عن وعي المواطن و تطوعه الحضاري باحترام القانون و الواجب الضريبي و المصلحة العامة إلخ … و في الأثناء يشترطون عليك بأن لا تمرّ إلى الفحص الفني حتى تكون خالصا مع شركة التأمين … ثم يشترطون عليك بأن تعلّق وثيقة التأمين ملصقة على بلور العربة حتى يراها حرس المرور … ثم زادوا هذه السنة فاشترطوا عليك بأن تكون العجلات من ماركات معينة … و في نفس السنة اشترطوا خلاص كامل ديونك الجبائية قبل الحصول على ملصقة معلوم الجولان (فينيات) … يعني عون المرور صار في نفس الوقت مندوبا عن شركات التأمين + وكيلا لمصانع العجلات + مسؤولا عن إدارة الضرائب …
تجده بالمرصاد لكل هذا و لكل شيء … إلا لمهمته الأصلية و هي تسهيل حركة السير، و فضّ الزحمة في المفترقات، و نجدة من حدث لسيارته عطب، و حمايتك من عربدة بلاطجة الطريق و ما أكثرهم …
و تبحث من مصير هذه الأموال الجرارة المسحوبة من دمك كل يوم، فلا تجد لها تقريبا أثر … لا مرافق عمومية، و لا طرقات تصلُح، و لا دولة تحميك من جشع المضاربين، و لا خدمات تبرر وجود إدارة، و لا إدارة إلا لمزيد تكريهك في الحياة …
هذا دون الرجوع إلى عمليات التحايل الرسمية الموروثة … كربط فاتورة الماء بمعلوم شبكة التطهير التي تبتلع المارة في كل مطرة، و ربط فاتورة الكهرباء بمعلوم إذاعة و تلفزة لم يعد يتابعهما أحد تقريبا …
و لن نطيل كثيرا في حال شركة الكهرباء و الغاز المفلسة الآن لأسباب شتى … و لكن ما نعلمه (من كلامهم) أن معظم خسائرها متأتية من الشركات الكبرى و مؤسسات الدولة التي لا تدفع صوردي … غير أنهم في المقابل لا يقطعون الكهرباء إلا عنك أنت … و منذ مدة صاروا يبدؤون بقطع الغاز … إذ يمكنك أن تنام على ضوء شمعة، أو تتفرج على مسلسلك عن طريق هاتف مشحون منذ يومين … أما اللعب بعشاء الأولاد، فالحايرة لا تنتظر …
و تعداد الأمثلة بالآلاف على أنك في دولة لا حقّ لك عليها، بل كلك واجبات واستجابات و يا ويلك إن تقاعست أو عجزت … دائما لها ناطقون رسميون و غير رسميين ينهالون على كرة سهلة الركل اسمها “المواطن” … و اللعنة على هذه الصفة التي صارت أرذل في بلادنا من صفة حيوان شارد …
دولة الرفس لا تعرف من أين تبدأ معها … بالبرلمان الذي يحضر أفراده بكثافة للتصويت على قروض مهلكة، أو إعفاءات لصالح رؤوس الأموال، أو زيادة في منحة النواب … و يغيبون ـ بكثافة أيضا ـ عند مناقشة شؤون تافهة كإنقاذ البلاد من جائحة كورونا، أو موضوع الإرهاب، أو ملف الفساد؟
بالحكومة التي تضرب أساتذة الدكتوراه بالهراوة و الكلب و القنبلة المسيلة للدموع … في حين تتفاوض مع قاطعي مضخة النفط و سكة الفوسفات، مفاوضة الصديق مع الصديق … أو تتصوّر مع غزاة المطار صورة عائلية باسمة و كأنهم وليّ حميم ؟
بالرئاسة التي كل همّها البحث عن حيلة دستورية لترك “خصومها” في التسلل، و التنقيب في بطون الكتب الصفراء عن لفظة أو جملة من مهجور الكلم … حتى يتداولها هواة فايسبوك متندّرين الأشهر و الأسابيع؟
و من هنا إلى أن يحلّها ربّك بما يعلم و لا نعلم، ها أننا نعود إلى تاريخ ما قبل التاريخ … بل إلى فترة عاشها آباؤنا و لم نعشها، و هي فترة “لا بد من برلمان تونسي و حكومة وطنية” و فترة “الاستقلال التام أو الموت الزؤام” … نعم، فنحن في حالة احتلال لا يقل عما يعيشه أشقاؤنا الفلسطينيون …