عدوان ساقية سيدي يوسف … تضحية بالدم، و ليست عرسا !
نشرت
قبل 3 سنوات
في
قبيل الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003، دارت معركة لا تقل ضراوة و لكن من دون صواريخ توماهوك و مسرحها كان مجلس الأمن … أمريكا و بريطانيا من جهة، و فرنسا شيراك من جهة ثانية، و وراءهما و بينهما قوافل من الدول المسلسلة كسوق الرق …
ما لفت الانتباه وقتها، أن السجال بين مندوبي القوى الثلاث الكبرى استطال ليشمل السياسة و الاقتصاد و المصالح و حتى التاريخ … بل قل “ديون” التاريخ … نعم … فالتاجر المفلس يفتش في دفاتره القديمة، عسى أن يعثر على وديعة نسيها عند أحد، أو دينار طائش هنا و درهم ضائع هناك … و هذا ما فعله الأمريكان و البريطانيون مع فرنسا و وزير خارجيتها دي فيلبان … هل تذكر حين فتحنا بلادنا ملجأ لزعماء مقاومتكم؟ و حين وضعنا إذاعة البي بي سي على ذمة جنرالكم الهارب؟ و دخلنا ضد ألمانيا حربا طاحنة لأجل خاطر عيونكم؟ … و هل كنتم ستذوقون طعم الحرية لولا إنزال “نورمادي” الذي قمنا به، و “استشهاد” مئات المارينز في الواجهة دفاعا عنكم؟؟
لقد كانت واقعة مجلس الأمن تلك، من أغرب حصص المعايرة التي تسمعها في حياتك … و كان كلام المندوبين الأمريكي و البريطاني على غاية الجدية، و وجد صداه الواسع في إعلام ذينك البلدين، و في رأيهما العام المنصدم من “الخيانة الفرنسية”، كما وصموها لسنوات في ما بعد …
يقول القائل: و ما جدوى الرجوع إلى أحداث جدّت منذ 19 سنة، بل منذ 68 سنة؟ … و الجواب أن ذلك فرضته هذه اللغة الذليلة التي نسمعها من ساستنا كلما حانت ذكرى أحداث ساقية سيدي يوسف … إذ يخيّل إليك أن المدينة أرض مشتركة بين تونس و الجزائر، و أنهما كوّنا جبهة واحدة لمحاربة الاستعمار، و أن الخسائر كانت متساوية، و الأرباح كذلك … بينما الواقع غير ذلك تماما، تماما، تماما …
يوم 8 ـ 2 ـ 1958 كانت تونس دولة مستقلة ذات سيادة و لو كانت منقوصة بعض الشيء … لا يهمّ … المهمّ أنها كانت دولة معترف بها بين الدول بحدودها و حكومتها و جيشها و شرطتها و إدارتها و محاكمها و مصانعها و مدارسها و مستشفياتها … و في المقابل، كانت الجزائر في ذلك التاريخ مستعمرة فرنسية من شمالها إلى جنوبها و من شرقها إلى غربها … و كانت تخوض نضالا باسلا ضد المستعمر … نضالا بالرجال و النساء و حتى الأطفال، و بالسلاح أيضا و الكمائن و المخابئ و الكرّ و الفرّ … و لم يكن ذلك ممكنا بوسائل الجزائر بمفردها، فهي محتلة محاصرة بجنود الاستعمار و حتى ببعض خونة الداخل ممن كانوا فرنسيين أكثر من فرنسا نفسها …
و هنا دخلت تونس المستقلة حديثا على الخط … شعبيا، كانت الجزائر و ما تزال جزءا من وجدان التونسي قبل حتى أن يوجد مفهوم “الأمن القومي” الحديث … أما رسميا، فكان هناك عهد على أن تتضافر ثورات التحرر في كافة بلاد المغرب العربي … هناك من رأى ذلك في شكل مواجهة شاملة، و هناك من اختار تكتيكا آخر، و الجدل لم يحسمه مؤرخو السياسة بعد … المفيد أن تونس وضعت نفسها على ذمة ثوار الجزائر ظهرا و حاضنة و مصدر مدد … و دفعت الثمن غاليا في هذه الأسابيع الأولى من سنة 58 و لا شكر على واجب …
تماما كما فعلت ذلك تقريبا مع نفس الجزائريين سنوات عشريتهم السوداء و حتى طوال كساد الثمانينات … و كانت السلع التونسية المدعّمة خاصة، تجد طريقها إلى القطر الشقيق و كأنها ذاهبة إلى مواطنين تونسيين لا فرق … و تماما أيضا كما فعلت تونس طوال تاريخها مع الجار الشرقي و ربما لمدة أطول بكثير … سواء زمن الاستعمار الإيطالي الفاشي أو أثناء الحصارات المتعددة التي تعرض لها (أو عرّض نفسه بسياساته) نظام العقيد … و لكن العقوق الحالك كان الجزاء، و عشنا معهم أكثر من قصة سنمّار …
تونس الكبيرة لا تريد رد جميل من أحد، و لا تعويضا من أحد، و لا حتى اعترافا بالكلام أو بالأفعال أو بأي شيء من أي أحد … تونس لا تطلب إلا أمرا واحدا، و من أبنائها دون غيرهم … احترِموا بلدكم، و راعوا تاريخه الكبير و دوره المحوري في المنطقة … و لا تذلّوه و لا تذلّونا أكثر مما تفعلون …
تونس الكبرى لا تفتخر بأن دماء أبنائها “امتزجت” بدماء الجزائريين أيام الساقية …
و لا تتباهى بأن دماء أبنائها امتزجت أيضا بدماء الليبيين أيام الدغباجي …
و لا يقتلها الزهو بأن الفلسطينيين “رضوْا” بأن تمتزج دماؤهم بدماء التونسيين في حمام الشاطئ …
تونس الشقيقة الكبرى قامت بواجبها، واجب الكبار، فقط لا غير … و هذا ما يرفعها إلى الأعالي بدل أن يضعها في مرتبة ثانية تشكر الآخرين على كرمهم بأن خلطوا دماءهم “النبيلة” بدمائنا الرخيصة …
فتبّا لهذا الزمن الذي جعلنا تحت حكم قصار القامات، و صغار النفوس …