الخامسة مساء .. تذكرت أني لم أقتن الخبز للعشاء .. أسرعت نحو المخبزة القريبة … أبوابها مغلقة … توجهت نحو الثانية المختصة في بيع ” الباڤات ” … صف طويل أمامها .. الجميع يتذمر.. بعض من يخرج يقف وراءنا في الطابور ثانية ليحصل على المزيد من الخبز … عرفنا حينها أن حصة الشخص الواحد لا تتجاوز خبزتيْ باڤات … بلغني الدور بعد أكثر من ربع ساعة لأحصل على باڤات بتسعيرة جديدة ، 250 مليما …
لم يكن من حديث بين سكان الحي المنتظرين لدورهم أمام المخبزة إلا التذمر من فقدان المواد الأولية .. السميد ، الفارينة ، السكر ، الأرز … و ارتفاع أسعار اللحوم و الخضر و الترفيع في سعر البنزين و فرض “تمبري” الـ 100 مليم الخاص بالمغازات … فكلّما غرقت الحكومة و عجزت عن إيجاد الحلول توجّهت إلى جيوب المواطنين على شاكلة “عريان يسلب في ميّت”
سيناريو صفوف الخبز صار يتكرّر تقريبا يوميا في عديد المدن و المناطق التونسية … و الشعب في كلّ المناطق يتذمّر من الغلاء و فقدان المواد الحياتيّة الضروريّة و الكساد و الركود الاقتصادي، فأغلب القطاعات تقريبا تراجعت مداخيلها و صارت تعيش أزمات متتالية .. هذا إلى جانب تضاعف أعداد العاطلين و تواتر ظاهرة تأخرّ صرف الأجور في الأشهر الأخيرة ممّا جعل نسبة كبيرة من المواطنين يفقدون الشعور بالطمأنينة و يفقدون الأمل في مستقبل أفضل في هذا البلد، و دفع الكثيرين إلى التفكير الجدّي في الهجرة حسب ما تظهره آخر الإحصائيات .. و رغم تراجع نسب النّمو الاقتصاديّ وعجز عديد المستثمرين عن تحقيق الأرباح أو حتّى المحافظة على عمّالهم و إفلاس عديد المؤسسات الصّغرى و ملاحقة أصحابها قضائيّا، فإن قطاعا بعينه شهد طفرة كبيرة في أرباحه في السنّة الأخيرة هو قطاع البنوك الذي تقترض منه الدّولة شهريا من أجل خلاص أجور موظّفيها … و هو ما يدفعني إلى طرح سؤال غير بريء : هل هناك اتفاق غير معلن بين الحكومة و أصحاب المؤسّسات البنكية تؤجل فيه الحكومة عمليّة تنزيل أجور القطاع العام و الوظيفة العمومية من أجل أن تستفيد البنوك من خطايا التأخير التي تسلط على الموظفين من أصحاب القروض و ذلك مقابل أن تقوم بإقراض الدولة ؟
عدت إلى البيت و صدى حوارات الجيران يترددّ في أذنيّ و صورة الفيديو المتداول على شبكة التواصل الاجتماعي بين ناظريّ … فيديو في إحدى المغازات يصوّر عراك المشترين و صراعهم من أجل الحصول على نوع من الجبن فيه نسبة تخفيض كبيرة .. عراك جعلني أتساءل ما الذي سيحصل بين أفراد الشعب لو دخلت البلاد أزمة حقيقيّة من ضعف الموارد و فقدان السّلع ؟ كيف سيكون الوضع و كيف سيتصرف أفراد الشعب فيما بينهم ؟ هل سيتقاتلون في سبيل الحصول على كيلو فارينة أو حفنة أرز أو قارورة غاز…؟
يقول الخبراء إنّ أسباب نقص المواد هو كثرة الطلب و ارتفاع الأسعار في الأسواق العالمية و ارتفاع سعر النقل البحري بعد أزمة الكوفيد .. و يقول البعض الآخر إن السبب في ذلك يعود إلى طول فترة الانتظار في الموانئ التونسية مقارنة بنظيراتها من بلدان شمال إفريقيا و ما يترتّب عن ذلك من معاليم إضافية و خطايا تأخير .. و يعتبر غيرهم أن انعدام السيولة المالية لدى تونس و فقدان ثقة البلدان الأجنبية فيها وراء عجزها عن توفير المواد الضرورية لعيش المواطنين … و يرجع آخرون السبب إلى عدم شفافيّة مسالك التوزيع و ضعف المراقبة الاقتصاديّة و تهريب المواد المدعّمة إلى البلدان المجاورة .. فيما يؤكد رئيس الجمهورية أن المحتكرين أعداء الشعب و المنكلين بقوته و المتآمرين على 25 جويلية هم سبب هذه الأزمة …
و مهما يكُنْ السبب فالمواطن لا تعنيه الأسباب و لا يهتمّ لمتابعة التحاليل الاقتصاديّة و المناكفات السياسيّة بقدر ما يؤرّقه الواقع .. و لا يهمّه صندوق النقد الدّولي و لا البنك العالمي و لا نادي باريس بقدر ما يهمّه ألاّ يعود إلى بيته بالقفّة فارغة .. و لا تعنيه بيانات البنك المركزي و لا حوارات وزيرة الماليّة و لا كلمات وزيرة التجارة بقدر ما يعنيه قوته و قوت أبنائه .. فالمسؤول – كلّ مسؤول- مادام قد قبل بالمنصب وبرستيجه و مزاياه العلائقيّة و منافعه المادية، ليس عليه اليوم إلا أن يكون قدر المسؤوليّة و أن يجد الحلول و يستبق الأزمات و يوفّر ضروريات الحياة للمواطنين لا أن يتباكى مع المُتباكين و يرفع يديه إلى السّماء في انتظار معجزة …
و لكنّ أصحاب المعالي يتكالبون على المناصب منذ سنوات من أجل مصالحهم و امتيازاتهم و يتخاصمون على الكراسي و يكيدون لبعضهم من أجل الوصول إلى نصيبهم من الغنيمة ومن كعكة الوطن .. و نسوا أنّهم جميعا راحلون وأنّ الوطن وحده باقٍ و نسوا كذلك أنّ الميّت الذي مازالوا يحلبونه و يسلبونه يمكن أن تعود إليه الرّوح فيكنسهم جميعا …