لأكثر من أربعين يوما، وسكان غزة من المدنيين يتلقون حمم النار أرضا وسماء ولم يسلم منهم طفل و لا امرأة ولا مسنّ و لامريض ولا مستشفى … و لاحديث عن مدارس ولا عن معيشة ولا عن مرافق حيوية لمواطنين فنحن لا نكترث عادة بهذه الشؤون، وفي بلدنا هنا كثيرا ما يتعطل كل شيء لأقل سبب، ودون قتال …
عندما تسمع شارعنا وتتابع وسائل إعلامنا وما ينشر سائبا على مواقعنا الاجتماعية، تتساءل مضطرا: هل الفلسطينيون بشر مثلنا أم طينة أخرى لاتشبه أي إنسان آخر؟ … هل حقّهم الوحيد هو الموت وحق الآخرين الحياة؟ … شعب بطل هذا صحيح، وشعب صامد هذا أكثر من صحيح، وشعب مغتصبة أرضه هذا بديهي منذ أن فتحنا هاتين العينين على الدنيا … ولكننا نحن أيضا اغتُصبت أرضنا وصال وجال فيها المستعمر طيلة 75 عاما، هي بالضبط عمر نضال الشعب الفلسطيني منذ النكبة … مع فارق … أننا في نهاية القرن إلا ربعا نجحت حركتنا الوطنية في إخراج المستعمرين ووضع أسس دولة وطنية مكانهم … قل إنه استقلال منقوص، قل إنه صفقة، قل إنه استعمار جديد، قل ما شئت … المهم أصبح مصير بلدك بين يدي أهله، يكملون استقلالهم متى شاؤوا، ويطوّرون قدراته متى أرادوا …
وقد تعلّمنا من حركتنا الوطنية من زعمائها الكثير، وتعلّمت منهم حركات تحرر أخرى في الجوار وفي القارة وفي المحيط العربي وفي كامل بلدان الجنوب وما عرفته من موجات استقلال في ستينات وسبعينات القرن الماضي … لم نعترف بذلك ولم نفهمه حينما كنا شبابا وطلاّبا … ثرنا أيام الجامعة على بورقيبة وقلنا فيه أوصافا لا حدود لسوئها … ولكن الرجل راح الآن بعد أن غادر الحكم أولا والدنيا ثانيا ومضت على ذلك عقود … وما نذكره شيئان هاهما يطفوان اليوم على الذاكرة … أوّلهما ما كان يردده آباؤنا ونحن صغار بأننا محظوظون بعدم معاصرة الاستعمار الذي لم يكن يسمح للتونسيين بالحد الأدنى من العيش الكريم، ولأطفالهم بأن يرتادوا المدارس فضلا عن الثانويات والجامعات … مع العلم بأن والدي مثلا رحمه الله، لم يكن من أنصار الزعيم ولا من المنخرطين في أية شعبة أو الهاتفين بحياة أحد اللهمّ إلا إذا أقسم بحقّ سميّه سيّد المرسلين …
كان ممكنا لحركتنا الوطنية منذ اكتسبت شعبيتها في الثلاثينات، إشعال حرب شنعاء على المستعمرين والمعمّرين طوال عشرين سنة بلا انقطاع … وبالنظر إلى عدم تكافؤ القوى بيننا وبين المحتلّ، كان ممكنا أن نضحّي بمعظم شعبنا في تلك المحرقة، فيما يمكث الباقون يشجبون العدوان الغاشم ويذرفون الدموع ويناشدون ضمير الإنسانية من منافيهم المستريحة في عواصم الخارج … أو كان ممكنا أن ندفع بنخبتنا المستنيرة نحو المقاصل واحدا تلو واحد، ومن يقتله المستعمر قتلناه بأيدينا في تبادل اتهامات بالخيانة … وقد جُرّب ذلك فعلا زمن المحنة اليوسفية، ولم يدم طويلا لحسن الحظ … ومع هذا ما زال جرح ذكراه نازفا إلى اليوم …
لقد علّمَنا زعماؤنا أن القوة مطلوبة دون شك، ولكنها تكون محسوبة في التوقيت والخسائر، وذات هدف معيّن وممكن التحقيق … ولطالما تمّ استعمالها كورقة ضغط ـ هي وخسائرها ـ في مفاوضات تأتي بمكسب ما … افتكاك حقوق نقابية من هنا، مواطنية من هناك، وصولا إلى حكم ذاتي فاستقلال منقوص فجلاء عسكري فجلاء زراعي إلخ … و لا تستهن بقوّة العدوّ في تلك الفترة، ففرنسا تبقى دوما دولة عسكرية واقتصادية مهابة قياسا إلى وضعنا الرثّ … أما عن مسألة الاحتلال الاستيطاني فكل الامبرياليات تستوطن ما حازته لأجل غير مسمّى … وهاهي مناطق في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية ما تزال تحت حكم العلم الثلاثي، تحت تسمية ممتلكات ما وراء البحار …
وقد فهم ياسر عرفات قانون هذه اللعبة ولو متأخّرا وبعد انهيار آخر جدار “ثوري” ممكن أن يتكئ عليه … العراق … فاسرع إلى توظيف نتائج الانتفاضة الأولى كأنجح مواجهة خاضها الفلسطينيون عمليا وإعلاميا … وكانت مفاوضات أوسلو … الكثيرون ـ وربما الأغلبية الساحقة منا ـ ما زالت ترى في اتفاقيات أوسلو مهزلة وعارا واستسلاما وبيعا للقضية إلخ … ولكن بشيء من الرؤية المقرّبة، يمكن أن يخضع ذلك إلى تنسيب … وتنسيب كبير أيضا …
فللتذكير، كان العدوّ وحلفاؤه لا يعترفون بوجود كيان اسمه فلسطين ولا بكائن اسمه مواطن فلسطيني … لا يعترفون بالكلمة ولا بتاريخها ولا بأهلها ولا بأية حقوق لهم إلا كلاجئين في الشتات والمخيمات … فجاءت أوسلو لتضع اسما تحت الصورة، وتكون الصورة فوق أرض فلسطين أو في جزء بسيط منها … وثانيا، مكّنت أوسلو عشرات آلاف العائلات الفلسطينية من التلاقي والعودة بعد غربة عقود ويأس قد يدوم الدهر كله … وفي انتظار أن تعود آلاف أخرى، وقع تركيز سلطة وطنية فلسطينية على الأرض الغالية، وهو ما لم يحصل منذ ما قبل الحكم العثمانيأي منذ خمسمائة سنة !