جور نار

عندما تنكمش الدولة وينتعش الأدعياء … عمادة المهندسين تهدّد الطلبة بالسجن !

نشرت

في

للدولة التونسية وزارة للتعليم العالي والبحث العلمي تضمّ في هيكلتها العام إدارة عامة للتجديد الجامعي “تُعنى بمشاريع التجديد الجامعي المتنوعة والمتعلقة خاصة بتجديد عروض التكوين في مختلف مؤسسات التعليم العالي والبحث في القطاعين العام والخاص، وتطوير المهننة في التعليم العالي وإحداث مسالك تكوين منجزة بالبناء المشترك بين الجامعيين والمهنيين…ونشر ثقافة المبادرة وإحداث المؤسسات وبعث المشاريع … “، وبالتالي فإن تأهيل المسارات التكوينية وبعث العروض الجامعية أو إعادة النظر فيها كليا أو جزئيّا وتحديد المقاييس العلمية الدقيقة لنيل الشهائد هو من الاختصاصات الحصرية لأجهزة الدولة الرسمية، بعد الاستئناس برأي الهيئات المهنية ذات العلاقة (بصفة استشارية)  ورأي الخبراء والمختصين عند الاقتضاء.

<strong>منصف الخميري<strong>

إلا أن عِمادة المهندسين طالعتنا ومنذ 12 أوت 2020 ببلاغ موجّه إلى حاملي الباكالوريا الجدد  تعتبر فيه أن قرار بعث مراحل تحضيرية جديدة للدراسات الهندسية في القطاع العمومي (في القطاع العمومي نعم !) هو “قرار مُرتجل وينعكس سلبا على جودة التكوين الهندسي” وأنها “ستجد نفسها مُرغمة على عدم الاستجابة لمطالب التسجيل بجدول العمادة التي سيتقدّم بها كافة الناجحين في باكالوريا 2020 الذين سيختارون التسجيل بالشعب التي حدّدتها العمادة” … وهي :

المراحل التحضيرية المندمجة بكلية العلوم ببنزرت والمعهد العالي للإعلامية والرياضيات بالمنستير وكلية العلوم بصفاقس والمعهد العالي للإعلامية والملتميديا بقابس …(7 مراحل تحضيرية جديدة في تلك الفترة).

“وتُذكّر العِمادة بأن ممارسة مهنة المهندس تستوجب قانونا الترسيم بجدول العِمادة وكل مخالف لذلك يعتبر مباشرا للمهنة بصفة غير شرعية ومنتحل صفة مهندس ويُعرّض نفسه للعقوبات المنصوص عليها بالفصل 159 من المجلة الجزائية …”

لكن ما هو منطوق الفصل 159 الذي تُهدّد به العِمادة حاملي الباكالوريا ؟

يقول المُشرّع : “يعاقَبُ بالسّجن لمدة عامين وبخطية قدرها مائتان وأربعون دينارا كل من يتزيّا لدى العموم بلباس أو زي رسمي أو يحمل وساما دون أن يكون له الحق في ذلك ويستوجب نفس العقوبات كل من ينسب بنفسه لدى العموم أو بالوثائق الرسمية صفات أو أوسمة.”

وبعد التيقّن من أن مؤسسات التعليم العالي العمومي التي احتضنت مراحل تحضيرية للدراسات الهندسية لم يتسنّ لها ذلك إلا بعد احرازها على التأهيل العلمي وفق ملفّات ثقيلة جدا عُرضت على اللجان القطاعية العلمية بالإدارة العامة للتجديد الجامعي والتي تتضمّن كل التفاصيل المتصلة بمضامين التكوين في كل المراحل الدراسية ونظام التقييم والامتحانات والتربصات وإطار التدريس والشراكات المُبرمجة الخ… التفتت عِمادة المهندسين جهة مؤسسات التعليم العالي الخاص بعد إعلان نفسها الجهة المخوّلة قانونا للقيام بزيارات تفقدية إلى مدارس تكوين المهندسين في العمومي والخاص (بديلا عن جهة الإشراف الوحيدة وهي وزارة التعليم العالي بأجهزة مراقبتها ولجان متابعتها …) وقرّرت أن أربع مؤسسات لم تفتح أبوابها أمام “مفتّشي المواصفات” لعِمادة المهندسين التي تعتبر أنه من صلاحياتها إسقاط تأهيل معلّل ومبرّر ومؤصّل ومفصّل أصدره وزير التعليم العالي، وبالتالي على المتخرّجين من هذه المؤسسات أن يحذروا الفصل 159 من المجلة الجزائية الذي لا يُجرّم المؤسسة التي مارست تجاوزا (إن وُجد) بل الطلبة المتخرّجين منها حسب من يصوغ البلاغات في هيئة المهندسين!!!

هذا صلفٌ واغترار  واستقواء على الدولة !

من الزاوية الأخلاقية المحضة، كيف تسمح هيئة مهنية لنفسها بتحميل مسؤولية “الاختلالات المُفترضة في التنظيم والتأهيل والمراقبة لبعض المسارات الأكاديمية” لمئات الطلبة التونسيين الذين اختاروا مزاولة دراستهم في الاختصاصات الهندسية (في العمومي والخاص على حدّ سواء) وتهديدهم بالقوانين الجزائية المجعولة أصلا لحماية المجتمع من فئة من المجرمين “ينتحلون صفات مختلفة للإيقاع بضحاياهم” ؟ !

ثمّ لماذا حوّلت عِمادة المهندسين – بعد سقوط ورقة مؤسسات التعليم العالي العمومي غير المؤهلة- سِهامها نحو التعليم العالي الخاص مستغلّة بعض الترسّبات “الشعبويّة” في ذهنيّة كثير من التونسيين لا يرون أية آفاق للتميّز خارج منظومة التعليم العالي العمومي ويعتبرون أن مآسي الجامعة التونسية متأتية من ازدهار المؤسسات الخاصة، ويعتبرون كذلك أن عدم اجتياز المناظرة الوطنية لمدارس المهندسين هو امتياز غير عادل الخ… ؟ وهذه الأخيرة في اعتقادي ذريعة لا تصمد كثيرا من الناحية المنطقية لأنها من ناحية “صيغة فرنكوفونية لتكوين المهندسين” تمّ تجاوزها واستبدالها في كثير من بلدان العالم المتقدّم ومن ناحية أخرى، عوض المطالبة بتعميم المناظرة، لِم لا تتمّ المطالبة بإلغاء المناظرة واستبدالها بصيغة تقييم داخلي في كل مؤسسة تعتمد مقاييس صارمة وتأخذ بعين الاعتبار كامل المسار الدراسي للتلميذ “المهندس” ؟

أعتقد أن الأصل في الأشياء هو أن نرتقي بأداء التعليم العالي العمومي حتى يصبح في نفس مستوى جودة بعض مؤسسات التعليم العالي الخاص (التي تميّزت وفرضت خرّيجيها في سوق الشغل العالمية : وما عليكم إلا أن تقارنوا عدد الملتحقين بكبرى المدارس الهندسية في فرنسا من تحضيري المرسى العمومي على سبيل المثال بعدد المقبولين في نفس المدارس من بعض مؤسسات التعليم العالي الخاص) وليس أن نطالب هذه الجامعات بمسايرة نسق تطور المنظومة العمومية.

وتجدر الإشارة كذلك إلى أن الناجحين في الباكالوريا ـ خاصة من الباكالوريات العلميةـ لا يختارون التعليم العالي الخاص لكون عائلاتهم بوسعها تمويل دراساتها (فقط) وإنما أيضا لأن سياسة التضييق والحوكمة السيئة في مجال التصرف في مُخرجات التعليم الثانوي ساهمت بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة في التحاق شريحة هامة من حاملي الباكالوريا بالجامعات الخاصة (حتى لينتابك الشعور أحيانا بأن هنالك تشابكا سببيا بين هذا وذاك).

بناء على ذلك، أقدّر شخصيا أن الطرف الذي من المفترض أن يُطالَبَ بالتأهيل هو عِمادة المهندسين نفسها، لأنها مازالت تتصوّر أن مجرّد التسجيل بجدول العمادة يفتح كل الآفاق واسعة أمام المترشحين لسوق الشغل ! والحال أننا نعلم جميعا أن حوالي 3000 مهندس تونسي يغادرون سنويا البلاد التونسية نحو كبرى الشركات العالمية (وهو أمر مأسوف عليه لأنهم يشكلون ثروة وطنية كان من الممكن توظيفها في تطوير النسيج الصناعي والاقتصادي والمالي الوطني بدلا من وضع كفاءاتهم ومهاراتهم على ذمّة الاقتصادات العالمية. فهل تعتقد أن مهندسا في حجم خالد قوبعة على سبيل الذّكر كان ينتظر التسجيل بعِمادة المهندسين قبل احتفاء غوغل بكفاءته ثم شركة فايسبوك بمهارته في الفترة الأخيرة ؟! 

فالمهندسون التونسيون المتخرجون من الجامعات التونسية العمومية والخاصة (وهذا هو الوجه الآخر من المفارقة) يتمتّعون بتكوين وخبرة وجدية وروح مثابرة وقدرات اتصالية تؤهّلهم لاكتساح مختلف بلدان العالم في شركات ومؤسسات إنتاجية وصناعية وخدميّة وبنكية لا تعترف بمقاييس الانتداب البائسة من قبيل “أشكون بعثك” و “ولد أشكون”  و “عندك لوك تباركالله” و “فلان آش يكون منّك” الخ…ويساهم هؤلاء “المهدّدون بالفصل 159 من القانون الجزائي” في ضخّ الملايين من العُملة الصّعبة للخزينة التونسية ويتولّى كثير منهم توظيف مهندسين آخرين واستكشاف مواطن تربّص واعدة لطلبة تونسيين قبل التخرّج…

من هذا المنطلق، الأوْلى بعِمادة المهندسين أن تخوض معركتها على صعيد آخر في سبيل تحسين وضعية المهندسين المباشرين في تونس (خاصة في المؤسسات الوطنية العمومية والوزارات التقنية) وحمايتهم من الاستغلال وسوء التوظيف…فمجرد مقارنة الأجر الذي يتقاضاه المهندس التونسي في تونس بنظيره في الخارج يُصيب بالخجل والإحباط.

أقول أخيرا :

أعجب حقيقة للصّمت المُطبق الذي تنتهجه وزارة التعليم العالي إزاء التهديدات التي تأتيها عمادة المهندسين منذ 2020 (باستثناء تصريح يتيم للوزير الذي لو لم يُسأل عن رأيه في إذاعة خاصة أثناء زيارة ميدانية لما تحدّث في الموضوع)… خاصة أثناء تعمير الطلبة الجدد لبطاقات اختياراتهم في التوجيه الجامعي والهلع الكبير الذي أصابهم أمام انتصاب العمادة مخاطبا رسميا لهم ولعائلاتهم بدلا من الوزارة وأجهزتها (فمن الذي ينتحل صفة غير مخوّلة له قانونا في الواقع ؟).

لقد حدث أيضا أن قامت وتقوم بعض النقابات برفض تعيين رسمي هنا وطرد مسؤول مباشر هناك، وهو سلوك من نفس جنس ممارسات عمادة المهندسين يترجم استضعافا للدولة وتجاوزا خطيرا للصلاحيات الأصلية الموكولة إلى كل طرفـ، ومدخلا للإجهاز النهائي على ما تبقّى من أركان دولة مُثخنة بجراح غائرة تسبّب بها أبناؤها قبل أعدائها.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version