جلـ ... منار

عودة لولا … إشارات ورسائل

نشرت

في

“نريد الكتب بدلا من البنادق.. نريد استعادة الأمل”.

هكذا تحدث الرئيس البرازيلي المنتخب “لويس إيناسيو لولا دا سيلفا” في خطاب النصر.
كانت تلك إشارة لعمق الانقسام الاجتماعي والسياسي الحاد في بلد مترامي الأطراف وكتلته السكانية تتجاوز المائتي مليون نسمة.

<strong>عبد الله السنّاوي<strong>

في لحظة انتشاء الفوز تبدت أمامه منزلقات ومخاطر، فهو ربح الانتخابات بفارق أقل من (1%) فيما خصومه السياسيون حازوا الأغلبية التشريعية.
“نحتاج إلى السلام والوحدة”.
كانت تلك إشارة أخرى إلى ما يعتقد أنها من مقومات أي نجاح في إدارة شئون البلاد، حتى
تعود من جديد إلى الساحة الدولية لاعبا فاعلا ومؤثرا، ألا تكون منبوذة بالصورة التي كانت عليها في عهد الرئيس المنتهية ولايته “جايير بولسونارو”، الذي خسر الانتخابات أمامه.
بتجربته العريضة، حيث تولى رئاسة البرازيل لدورتين بين عامى (2003 ــ 2010)، فهو يدرك معاني الأرقام ورسائلها.
نحن أمام رأي عام منقسم ونجاحه في الحكم قد لا يكون مؤكدا إذا أفلت الأمن عن كل قيد واستغرقت طاقة البلد في صراعات داخلية.

هو رجل ينحاز تماما إلى الفقراء الذين خرج من بين صفوفهم.
عمل لفترة ماسحا للأحذية ولم يتنكر لأصله الاجتماعي في أية لحظة.
أحدث نقلة كبيرة في اقتصاد بلاده ومستويات معيشة مواطنيها مكنته من أن يجدد رئاسته لمرة ثانية بأغلبية (60%).

في خطاب النصر أعاد التزامه بقضية العدل الاجتماعي، صلب شرعية انتخابه: “الشعب يريد أن يأكل بشكل جيد، أن يحصل على وظيفة وراتب يتم تعديله وفق نسب التضخم، وأن يحظى بصحة وتعليم جيدين”.
كانت عودة “لولاي”، كما فى صعوده، تعبيرا عن أحوال القارة اللاتينية.
لم يكن وحده في رحلة الصعود، فقد صاحبه بتوقيت متزامن صعود يساري في الأرجنتين، الشيلي، وأورغواى، وبوليفيا، والأكوادور، وفنزويلا.
كان ذلك في توقيته ورسائله تعبيرا عن تحولات عميقة عنوانها الرئيسي: التحول التدريجي البطيء الراسخ من حرب العصابات إلى الدولة الديمقراطية الحديثة طلبا للعدل الاجتماعي واستقلال القرار الوطني بعيدا عن الهيمنة الأمريكية على مقادير القارة.

حرب العصابات استدعتها الأنظمة الفاشية؛ حيث تسحق حياة مواطنيها إلى حدود الإلغاء بأثر الفقر والعوز والتهميش.
عندما تهيأت الوسائل الديمقراطية نحيت البنادق جانبا وبدا أن هناك أملا في مستقبل آخر عبر صناديق الاقتراع.
هكذا تمكن اليسار اللاتيني من حصد السلطة في دول عديدة بتوقيت متزامن.
ألهمت الثورة الكوبية حرب العصابات في أنحاء القارة، وكانت أكثر تجاربها نجاحا بفضل رمزيها الكبيرين “فيدل كاسترو” و”تشى غيفارا”.

في لحظات تالية بدت التجربة الكوبية نموذجا للتطور التقني والعلمي والطبي، غير أن التطورات التي جرت في بنية القارة تجاوزت فعل السلاح إلى طلب الديمقراطية ومازجتها مع العدالة الاجتماعية.
كان طلب الخروج من التبعية الأمريكية أكثر الأفكار هيمنة على الفكرين السياسي والاقتصادي اللاتيني.
لم تكن مصادفة أن تعود أغلب إسهامات “نظريات التبعية”، التي سادت الجامعات الغربية لسنوات طويلة إلى اقتصاديين لاتينيين. كانوا كبلدانهم وأدبائهم مسكونين بوطأة الانقلابات العسكرية، التي ترعاها الاستخبارات الأمريكية، وما ترتكبه من مجازر دموية كالتي حدثت فى الشيلى على يد الجنرال “أوغستو بينوشيه” ضد أنصار الرئيس “سلفادور الليندي”، أو بالنهب المنظم الذي ترتكبه الشركات الدولية بالتعاون مع شبكة فساد تتحكم في مقاليد السلطة.

بأية مراجعة جدية للتجارب اليسارية اللاتينية في موجتها الديمقراطية الأولى فإن “لولا” هو العنوان الأول في إحداث اختراقات حقيقية بالاقتصاد والمجتمع.
تجربته بإنجازاتها بدت ملهمة لدول عديدة أخرى بأنحاء العالم، لا فى القارة وحدها، حتى إن صحيفة “لوموند” الفرنسية اختارته عام (2009) شخصية العام قبل أن تعتبره مجلة “التايم” الأمريكية في العام التالي الزعيم الأكثر تأثيرا في العالم.
جرت مطاردة صورته وهو خارج السلطة بالتشهير المنهجى.
أطيح بنائبته السابقة وخليفته على المقعد الرئاسى “ديلما روسيف” بتهمة الفساد، ثم امتدت الاتهامات إليه شخصيا.
جرى اعتقاله والزج به خلف جدران السجون بالتهمة المشينة، حتى لا يترشح مرة أخرى.

عندما برأته المحاكم البرازيلية تمكن من أن يحصد نصرا انتخابيا رغم كل الظروف المعاكسة.
لم يكن صعوده مجددا إلى رئاسة البرازيل منعزلا عما يجري في القارة من تحولات وما يصدر عنها من رسائل إلى المستقبل.
بتوقيت متقارب حدث صعود مماثل فى هندوراس، وكولومبيا، وتأكدت من جديد قوة اليسار في الشيلى وفنزويلا ورد اعتبار تجربة “موراليس” في بوليفيا بعدما جرى الانقلاب عليه.
صعود اليسار جرى هذه المرة على خلفية فشل النظم اليمينية الذريع في مواجهة الجائحة وتعاظم معدلات الفقر والعوز.
في حالة البرازيل بالذات تراجعت مكانتها الدولية بفداحة.

كانت سياسات “بولسونارو” المعادية لسلامة البيئة في غابات الأمازون داعية بذاتها إلى شبه عزلة دولية.
لم يكن مستغربا الترحيب الدولي الواسع بفوز “لولا”، فهو ينتمي إلى التيار الواسع للحفاظ على الحياة في الكوكب عكس “بولسونارو” منافسه اليميني الموالى للغرب في نسخته الترامبية!، كأنه توأم سياسي للرئيس الأمريكي السابق.
كانت معالجة الرئيس المنتهية ولايته لجائحة “كورونا” كارثية بكل معنى صحي، أو سياسي بصورة تشبه إلى حد كبير سياسات “دونالد ترامب”.
كانت العواقب واحدة في الحالتين بخسارة الانتخابات الرئاسية.

في لحظة إعلان النتائج أطل “شبح ترامب” على المشهد البرازيلي.
أغلق أنصار “بولسونارو” بالشاحنات الطرق السريعة في أنحاء البلاد لتعطيل حركة الحياة وإشاعة الفوضى تشكيكا في نظام التصويت الإلكتروني!
الحجج نفسها استند إليها أنصار “ترامب” فى اجتياح مبنى الكابيتول.
بقوة التجربة الديمقراطية الماثلة في الأذهان توقفت القصة في منتصف الطريق.
كان ذلك انتصارا للديمقراطية في القارة وتأكيدا على مسار المستقبل.

لا عدالة اجتماعية مستدامة بلا ديمقراطية حقيقية وحريات عامة وتبادل للسلطة وفق قواعد راسخة لا تقبل التسويف والتلاعب.
هذه الرسالة الكبرى فى عودة “لولا” وصعود اليسار اللاتيني مجددا.

ـ عن “الشروق” مصر ـ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version