غدا سنركب ظهور الحمير…لكن ماذا لو ارتفع سعر العلف؟!
نشرت
قبل سنتين
في
علينا أن نعي اليوم جميعا أننا في خلاصة الأمر شعب واحد، يطمح الى بناء دولة قوية مستقلة ذات سيادة، دولة عادلة ويحكمها عادل لا يستبد بالرأي ولا بالقرار ولا بالخيار…دولة يتساوى فيها الجميع من العالم للأجير، ومن المواطن إلى الوزير… دولة ديمقراطية تحقق وتلبي طموحات كل الشعب في أن ينعم بحياة آمنة كريمة لا فساد فيها ولا عمالة ولا خيانة ولا استبداد حاكم أو مسؤول…أين نحن اليوم من كل هذا؟
هل حققنا شيئا من طموحات الشعب وما يريده ويتمناه؟ لا شيء مما كان يتمناه الشعب حققه … ولا شيء حققه له حاكمه الجديد ولا من سبقه أو تحقّق له…لا شيء…فأكبر معضلاتنا اليوم وأكبر مشكلاتنا هي من أين نأكل وماذا نأكل وهل لنا من الأكل ما يكفي كل هذا الشعب ليبقى على قيد الحياة…؟
هذا الشعب لم يعد يهتمّ لإنجاز أو لبعث مشروع رائد يشغّل الآلاف، أو لنجاح علمي يهزّ الدنيا من أحد أبناء هذا الوطن المنكوب، أو شراكة اقتصادية تملأ خزائن البلاد وتغنيه عن التسوّل من المنظمات والدول والمؤسسات المانحة، أو لبطولة في كرة القدم أو لزواج فمن يتزوجون صيفا يتركون زوجاتهم شتاء ولا نهتمّ لشوط في كرة المضرب أبدعت فيه أنس جابر…هذا الشعب أصبح عاجزا عن العمل فالكسل أصبح شعار الشعب منذ 14 جانفي…منذ أصبح “العزري أقوى من سيدو” ومنذ أصبح الاتحاد شريكا في الحكم بالثلثين…
أعظم همّوم هذا الشعب اليوم هو كيف يهرب بعضه من جحيم البلاد وبطش ظروفها… وللبعض الآخر ممن لم يعد يهمهم أمر مستقبلهم بعد أن عجزوا عن توفير مستقبل أفضل لأبنائهم…أقول أعظم هموم هؤلاء كيف يبقون على قيد الحياة، وليبقوا كذلك عليهم أن يأكلوا فمن أين سيأكلون وكم سيدفعون مقابل أكلهم وكيف سيحصلون على بعض السكر والزيت ورغيف من الخبز فقد وزنه الحقيقي بسبب سوء التغذية، فحتى رغيفنا يعاني من هبوط حاد في الوزن وانسداد في الشرايين وسوء تغذية في مكوناته…
دولتنا أبقاها الله لا تبحث اليوم عن استثمارات ولا كيف تصنع الثروة لأجيالنا القادمة…ولا كيف توفرّ مواطن شغل للهاربين من “حرقة” البطالة إلى “حرقة” الموت غرقا في المتوسط…همّها الوحيد، كيف تسدّ رمق هذا الشعب الذي بدأ بعضه يشعر بوجع في بطنه من الجوع…حتى لا يخرج عليها ماسكا بطنه بيد وحجر باليد الأخرى مطالبا بحقّه في الأكل والماء…فالجوع هو سبب أكثر من ستين بالمائة من الثورات والانقلابات التي وقعت خلال القرن الماضي… مشكلتنا اليوم هي أن بطوننا أصبحت شغلنا الشاغل فنسينا فلذات أكبادنا التي هربت من جحيم بطالة واحباط ويأس نحن اشعلنا ناره بأحقادنا…وكراهيتنا التي زرعناها يمنة ويسرة وشمالا وجنوبا…وكأني بحكامنا تعمّدوا أن يجعلوا من بطون الشعب أكبر همّه عوض أن يبحث عن أمور قد تنغّص على الحكام حياتهم…فالشعب اليوم عوّض الديمقراطية بالرغيف ونسي أن توفير الرغيف للشعب هو مكوّن من مكونات الديمقراطية…وكأني بشعار الشعب اليوم أصبح “أحكم واعمل اللي تحب …فقط اعطيني ناكل”…
هذه البلاد هي اليوم ضحية حقدنا وكراهيتنا لبعضنا البعض…وضحية الفتنة التي جاء بها “التتار والوندال” و”جنكيز خان” من اليسار واليمين وحتى من سكان الدار الذين لم يضعوا حجرا واحدا في هذا البناء الذي بدأ يتآكل من ثقل الأحقاد… المشكلة هنا، والكارثة التي بدأت تحوم حول هذه البلاد هي أن نسبة كبيرة من هذا الشعب وكأني بهم قبلوا بما يجري فأصبح عندهم تفكيك الدولة ومؤسساتها أمرا واقعا يتعاملون معه بكل عقل انتقامي ووعي ثأري وتفكير حقدي… وهنا يكمن الخطر فمن الطبيعي أن يؤدي وعيهم، وما يقومون به فرديا وجماعيا الى تحقيق أهداف التفكيك…فلا غرابة إذن إن ازداد الأمر سوءا رغم تعنتنا وتمسكنا بأننا أتينا ما يجب اتيانه…ولا غرابة إن غابت العديد من المواد الحياتية الأساسية والضرورية…ولا غرابة إن أغلقت نصف المؤسسات الصناعية ومعامل البلاد أبوابها فكل هذا الخراب لا يضيرهم في شيء…ولا غرابة أيضا ان يغلق اتحاد الشغل في وجه الشعب المسحوق والمغلوب على أمره خيمته التي كثيرا ما تفاخرت قياداته الحالية والسابقة بأنها خيمة الوطن، فقيادات الاتحاد باعت الخيمة إلى من قايضها ثمنا ينقذها من تبعات الخراب الذي كانت شريكا بأكثر من النصف فيه، خلال عشرية كان فيها الاتحاد حاكما بأمره يعلم حتى متى يدخل بعض الوزراء بيوت راحتهم ومتى يداعبون زوجاتهم قبل الولوج إلى غرف نومهم…
لا تستغربوا إن ازداد الوضع سوءا وإن تسارعت وتيرة تمزيق هذه البلاد وشعبها…فعوض أن يختار الجميع النهج الإصلاحي العقلاني بعيدا عن الانتقام وتصفية الحسابات خوفا على كراسيهم، وعوض ان ينخرط الجميع في محاولات الإصلاح بنبذ الأحقاد وتغليب المصلحة العليا للوطن والشعب، اختاروا القبول بالأمر الواقع لأنه يُرضي أحقادهم ورغبتهم الجامحة في الانتقام والثأر… وعلينا أن نعي قبل فوات الأوان وقبل أن نشعر جميعنا بوجع في بطوننا من الجوع القادم كرصاصة خارجة لتوّها من كاتم صوت مجهول الهويّة…أقول علينا ولا خيار أمامنا إلا الوقوف في وجه السياسات الخاطئة التي تهدف إلى تفكيك الدولة ومؤسساتها، وليس أمامنا غير خطاب وطني جديد جامع يوحد الجميع نحو هدف واحد …الوطن ولا غير الوطن…وطن يتعايش فيه الجميع ويتصالح ماضيه مع حاضره لضمان مستقبل أجمل وأفضل لأجياله القادمة…فتوريث الحقد وتغليب الفتنة سيفكّك أوصال هذه البلاد التي مات بُناتها من أجل أن تكون أفضل وأجمل لأبنائها وبناتها…
أظنّ أنه من العقل ان يقول المواطن اليوم كلمته حماية لهذا البلد وهذه الدولة من التفكّك حتى لا يقع اتهامه مستقبلا بالصمت السلبي المدمّر…على المواطن الواعي بمصلحة هذه البلاد أن يفكّر بعقل واع ومنطقي وليس بعقل الجاهل المتملّق المتسوّل للمناصب والكراسي والحاقد على كل خصومه، فسكوت المواطن اليوم لن يفيد البلاد في شيء بل سنحصد بسببه اللعنة من ولأبنائنا وأجيال المستقبل…وليعلم الجميع أن الوضع البائس الذي تمر به البلاد اليوم هو نتاج ثقافة الأوهام وعقلية الإلهاء التي تعيشها الطبقة الحاكمة، ومن يحيطون بها…وعلى حكامنا اليوم أن يدركوا جيدا أن تعاطي شؤون الحكم لا يكون بالتقاتل السياسي والحقد والتخوين…ولا بالاستماع إلى من يكيدون لهذه البلاد ويضمرون لها شرا…والحال أنهم اغرقوا مسامعنا بخطاب التسامح والتعايش والمحبة ودولة القانون وحكم الضمير وعدل عمر…
أرأيتم إلى اين أوصلتنا احقادنا…إلى اين أوصلنا غرورنا وتعنتنا وخوفنا من الجلوس حول طاولة واحدة… طاولة الوطن…نحن اليوم في مفترق طرق خطير…فمع كل صباح نفتقد مادة من المواد الحياتية المعيشية الأساسية…وكل مساء نسمع بفقدان مادّة أخرى…فما رأيكم حين تلتقون بأكثر من متسولة تطلب ثمن كراس أو ثمن كتاب لابنها …هذا ما نعيشه اليوم في أغلب جهات البلاد…أصبح التسوّل مناسباتيا … ما رأيكم في من يتسوّل لشراء بعض الدواء…ما رأيكم في من باع سيارته لأنه لم يعد قادرا على تحمّل مصاريفها …ما رأيكم في من باع منزله لينقذ ابنه من البقاء في وطن أصبح يؤلمه…يقتله…يدمّره؟ ما رأيكم؟ هل سيضطروننا إلى الاقتصاد والتقشّف في كل شيء حتى يسعدوا هم بالحكم ويهنأ بالهم…حتى لا ننغّص عليهم حياتهم في قصور الحكم بالمطالب…
لا غرابة غدا إن خرجوا علينا بومضات اشهارية تدعو إلى الترشيد في استهلاك الماء الصالح للشراب حسب زعمهم لأسباب صحيّة …ولا غرابة إن جاؤوا بطبيب مختصّ في امراض الكلى ينصحنا بالترشيد في استهلاك الماء خوفا على ما تبقى من كلانا…كما لا غرابة في أن يخرج علينا أحدهم ليروي لنا قصصا طويلة عن خطورة السكر وكل المواد الأساسية المفقودة على الصحة وينصحنا ليس بترشيد استهلاكها بل بالاستغناء عنها وتعويضها بمواد أخرى متوفرة…ماذا لو حذف الدعم كاملا عن المحروقات…هل سنعود لنركب الدواب؟ هل سنضطرّ إلى تحسين علاقاتنا بالحمير ونحن الذين أهنّاها طويلا وارهقناها بما حملناه على ظهورها من متاع ومن أثقال… وما قُلناه عنها… ومن شبهناهم بها؟ ماذا لو أصبحت الحمير هي وسائل نقلنا لعملنا وقضاء شؤوننا…ماذا لو أصبح الحمار هو الناقل الرسمي الوحيد للموظفين والعملة إلى مقرّات عملهم…ماذا لو وصلت متأخرا عن موعد خروج الحمار رقم 28 من محطتنا…هل سأطلب من أحد الركاب أن يتحرّك قليلا إلى الوراء حتى أجد مكانا معهم على ظهر الحمار…فماذا لو قال لي “وخّر وخّر ظهر البهيم وفى…شوف البهيم اللي بعدو…”…فهل ستُصبح تونس البلاد التي نصف سكانها من الحمير…والنصف الثاني أصدقاء وأصحاب الحمير… خلاصة قولي… فماذا لو ارتفع سعر العلف…؟؟؟ “وخّر وخّر ظهر البهيم وفى…”…