في حربي أوكرانيا وغزة يجد الرئيس الأمريكي “جو بايدن” نفسه أمام مأزق مزدوج قد يكلفه خسارة الانتخابات الرئاسية نوفمبر المقبل.
المأزق المزدوج إخفاق مؤكد. في الحربين طرح سؤال مستقبل النظامين الدولي والإقليمي. بحكم النتائج الماثلة يصعب أن يكسب رهاناته على قيادة أمريكية منفردة للنظام الدولي وهيمنة كاملة على مقادير شرق أوسط جديد. المفارقات سمة رئيسية في أية مقاربة للحربين. لم يبد الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي” أي تعاطف بأية درجة مع الضحية الفلسطينية. لم يتردد للحظة واحدة فى دعم آلة الحرب الإسرائيلية. ولم يعترض على حرب الإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة تقتيلا وتجويعا واستهدافا لأية مقومات حياة. بالمقابل مانع أغلب العرب في أي تعاطف مع الدعايات الغربية، التي ركزت على المأساة الإنسانية بأوكرانيا. كانت دواعيهم أن الولايات المتحدة، والغرب كله، لا يثق في مواقفهم حين تحاول أن تنسب نفسها إلى الإنسانية وقيمها.
كانت تلك مفارقة صارخة، لكنها كاشفة لنوع وحجم الاصطفاف الدولي وفجوات الثقة المتراكمة. في الأيام الأولى للحرب الأوكرانية، قبل عامين بالضبط، بدا التحشيد الإعلامي هيستيريا إلى درجة منع تدريس الأعمال الأدبية الروسية في الجامعات الإيطالية ووقف أية عروض باليه تنتسب إلى الإرث الحضاري الروسي. قيل في نقد ذلك الهوس إنهم يخلطون بين “بوشكين” و”بوتين!” بمضيّ الوقت وتطورات المعارك، خفتت تلك اللغة الاستئصالية بحمولات الجهل فيها. ارتفعت أصوات في قلب المؤسسات الغربية تحذر من محاولات إذلال روسيا وعواقبها الوخيمة.
العكس تماما حدث في حرب غزة. في البداية لاقت السردية الإسرائيلية لما حدث في السابع من أكتوبر رواجا إعلاميا واسعا قبل أن تتهاوى حملات التشهير بالمقاومة الفلسطينية. أفضت الأكاذيب، التي ثبت عدم صحتها عن فظائع ارتكبت في ذلك اليوم، إلى انقلاب في بوصلة الرأي العام الغربي. كما أفضت مشاهد التقتيل والتدمير المروعة إلى استقطاب مشاعر إنسانية عميقة تطلب وقف حرب الإبادة. لعبت وسائل الاتصال الحديثة أدوارا جوهرية في إطلاع الرأي العام الغربي لأول مرة بتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي على حقيقته ومأساته. خرجت تظاهرات بمئات الآلاف في الحواضر الغربية الكبرى تؤيد الضحية الفلسطينية كما لم يحدث منذ نكبة (1948). أحيت القضية الفلسطينية بعد الظن إنها توارت للأبد ودخلت طيات النسيان. هزمت إسرائيل استراتيجيا وأخلاقيا بغض النظر عن النتائج الأخيرة في الميدان.
لم تحدث مثل هذه التفاعلات الشعبية داخل الغرب في حربه الأوكرانية. عندما أقدم “فلاديمير بوتين” على ما أسماه العملية الخاصة ربما اعتقد أنها سوف تكون قصيرة وحاسمة بالنظر إلى فوارق القوة العسكرية بين البلدين. بنى “بوتين” أسبابه للتدخل العسكري على اعتبارات أمنية بالمقام الأول. كان رفضه قاطعا لوجود تمركزات لحلف “الناتو” على حدوده المباشرة، بعكس التعهدات التي قطعتها الولايات المتحدة مقابل اعتراف موسكو بوحدة الألمانيتين مطلع تسعينات القرن الماضي. لم تكن حسابات بوتين دقيقة، فقد استغل الغرب ذلك التدخل لتوريط بلاده في ما يشبه المستنقع الأفغاني، الذي أفضت تداعياته إلى انهيار الاتحاد السوفييتي. انخرط التحالف الغربي في حرب بالوكالة على الأراضي الأوكرانية بذريعة حماية المدنيين الأوكرانيين مما يحيق بهم من تشريد وجرائم.
يستلفت الانتباه هنا ما وفرته الإدارة الأمريكية من غطاء استراتيجي شبه مطلق لآلة الحرب الإسرائيلية للمضي في تدمير حياة وأمن أكثر من مليوني فلسطيني هدمت بيوتهم وجرت بحقهم حروب إبادة وتجويع. استخدمت حق النقض بمجلس الأمن لمنع استصدار أي قرار يوقف تلك الحرب. لم تكن الحرب على غزة سوى مواجهة بالسلاح من أجل الهيمنة على الشرق الأوسط ومنع أية فرص حقيقية أمام دولها لاكتساب استقلال قرارها الوطني. بنظرة مقاربة لم تكن أوكرانيا موضوع الحرب على أراضيها بقدر ما كانت ضحيته. وموضوع الصراع، مستقبل النظام الدولي وموازين القوى فيه.
طلب الرئيس الأمريكي جو بايدن ترميم صورة القوة العظمى الوحيدة رافعا شعار “أمريكا عادت”. أعاد ترميم حلف الناتو، الذي كاد يتقوض على يد سلفه “دونالد ترامب” حين طلب من حلفائه أن يتحملوا تكاليف الدفاع عن أنفسهم رافعا شعار: “الدفع مقابل الأمن”. مشكلة بايدن أنه أفرط بالتوجه العكسي. أقحم دول الحلف فىي الحرب الأوكرانية تمويلا وتسليحا وتدريبا وانخراطا استخباراتيا بالعمليات العسكرية، لكن النتائج لم تتوافق مع الرهانات. فشلت عملية الهجوم المضاد الأوكراني في إحراز اختراق عسكري يساعد على فرض نوع من السلام على روسيا. ترنحت الرهانات الأمريكية بينما أثبتت روسيا قدرتها على التماسك بأكثر من أي توقع مسبق أمام العقوبات الاقتصادية القاسية، التي فرضت عليها. تضررت روسيا من أثار الحرب على أدوارها السياسية والاستراتيجية على المسرح الدولىي، لكنها أيدت وتعاطفت وتبنت ما تطلبه المجموعة العربية في مجلس الأمن من قرارات دولية توقف الحرب في غزة دون أن تتجاوز حدود الدبلوماسية.
باليقين فإنها من أكثر الذين استفادوا من التورط الأمريكي في تلك الحرب واستحكام مأزق بايدن الداخلي على خلفية اتساع المعارضة داخل حزبه الديمقراطي للسياسة التي يتبعها. على مشارف العام الثالث من الحرب في أوكرانيا تقوضت نهائيا “رهانات بايدن” على نصر ما. أى سلام ممكن سوف يكون اعترافا بالهزيمة. في ظل التراجع المرجح للمساعدات الأمريكية والأوروبية بضغط النواب الجمهوريين في الكونجرس بدأت التقارير الدولية تشير إلى أن أية مفاوضات محتملة تعنى “التنازل عن أجزاء من أوكرانيا إلى روسيا”.
هكذا لا يمكن لـ”بايدن” التراجع ولا يمكنه بالوقت نفسه الاستمرار في الحرب. هذا مأزق محكم يجد نفسه فيه. بذات الوقت يعترضه في الحرب على عزة مأزقا آخر أكثر إحكاما. لا يقدر على فرض تصوراته على الحكومة الإسرائيلية لليوم التالي، ولا يحتمل أن تفلت فرص التهدئة من بين يديه فتستحكم أزمته الداخلية. فى ذلك المأزق المزدوج سوف يتقرر مصيره الانتخابي، كما رهانه على نظام دولي تتحكم فيه منفردة القوة الأمريكية، وقد يخسر بالوقت نفسه أي رهان على شرق أوسط جديد تلغى من فوق خرائطه القضية الفلسطينية جوهر الصراع على الإقليم ومستقبله.