فيما جميع العيون و الآذان ملتصقة بأخبار الجبهة الروسية الأوكرانية، و منها إلى عقوبات الفيفا وكافة الاتحادات الرياضية (على اللاعبين الروس) بعدما صدعت رؤوسنا طويلا بأن لا تداخل بين السياسة و الرياضة … و بين معقفين، ماذا لو تستغلّ سلطاتنا الفرصة و تفرض إرادتها على بعض الهياكل الرياضية أو تحلّها ضربة واحدة؟ و كيف سيتصرّف “إينفانتينو” معنا وقتها، خاصة في هذه الأيام و هو يُخضع اتحاده الدولي لمشيئة حكومات و أحلاف سياسية و عسكرية؟؟
قلت فيما الانتباه العام منشغل بأصوات المدافع و لغط الساسة، شغلني البارحة و قبل البارحة لغط من نوع آخر … إنه صوت المطر القادم إلينا من السماء التي لا تنضب، و صوت أخبار الثلوج و هي تكسو مرتفعاتنا واحدا تلو واحد … و صوت أسماء تالة و مكثر و ربما عيندراهم و الكاف و كسرى و جبل القرّاعة … أي مناطق “القوقاز” التونسية التي لا يأتي منها إلا الخير، و لكن ـ للأسف ـ لا يصل إليها إلا الشرّ … و إذا كان البعيدون في العاصمة و مدن السواحل، يتأذّون من لذعات برد هي مجرّد صدى وافد من مناطق الثلج … فماذا يقول سكّان تلك النواحي و هم في قلب العاصفة و على بياض أديمها؟
و لكنها و في كل الأحوال تبقى بشرى خير، حتى لمن ذكرناهم من حبائبنا المكتوين بقسوة الطبيعة … و لن أكرر ما يعيده علينا منشدو مزايا المطر و الخضرة و أفضال مواسم الخصب، و لكن لا شيء أفظع من الجفاف و لا شيء أشنع من العطش … هذا بديهي … نعم، إنما في الكتب و الخطب فقط … فلا تسمع منذ الآن عن إعداد موسم الحصاد، كما لا تسمع في الصيف الرائق عن الاستعداد لموسم الأمطار … لذلك تفاجئنا كثرة المياه كما يفاجئنا انحباسها كما تفاجئنا حالة الطرقات كما يفاجئنا ضيق السدود كما تفاجئنا ندرة أكياس الحبوب أو أسلاك ربط الأعلاف أو عجز مخازن القمح …
و مهما نزل عندنا من غيث نافع، فإننا دائما نجد وسائل تحويله إلى غيث ضارّ … و بدل المسارعة إلى توظيف تلك الثروة الربّانية في توفير مؤونة و تدبير رزق لملايين الناس، تجدنا ننهمك في توظيف آخر … هذا يبرهن على فضل صلاة الاستسقاء، و هذا ينكرها، و تنشب معركة تكفير و تجهيل مستعرة … أو ننتقل من وضع السعداء بنعمة سخيّة، إلى وضع المنكوب المتعرّض لكارثة و فيضان مدمّر و طرقات مقطوعة و بواليع مفلوقة و شوارع غارقة حتى الأذنين … و بدل بلاغات الإرشاد الفلاحي و متابعة العمل الذي ينبغي إنجازه بالمناسبة، لا توافينا سوى بلاغات الحماية المدنية و الحرس الوطني و الهلال الأحمر و وكالة غوث اللاجئين …
إنها تونس المقلوبة على رأسها … ألسنا بلد هذه الأكلة الشبابية (المقلوب) التي لم أفهمها إلى الآن، و التي يخبزها “علي” ولد جارتنا في محل كان لإصلاح الدراجات و يتهافت عليه اليوم كافة أبناء حومتنا و ما جاورها، بشراهة أحسدهم عليها؟ … قلت إنها تونس المتشقلبة حيث نتقن فن إهدار الثروات أو إخفاءها أو عدم الاعتراف بوجودها أصلا … قصة البترول لن أعود إليها، فنحن من كل العالم لا نملك و لو قطرة … طيب … ولكن الماء، حتى هو أيضا سر من أسرار الدولة و يا ويلك إن طالبت به أو قلت عندنا منه؟
و إلا فلماذا و أيّا كانت تساقطات الأمطار، و أيّا كانت الفيضانات، و مهما جرفت السيول من أحياء (عباد) وأحياء (جمع حيّ سكني) و مدن بكاملها … أبدا أن تقرّ الدولة بأن المياه متوفرة و أن شركة السوناد لن تقطع عنا حنفيات الشرب … دائما يطلع لك موظف من وزارة الفلاحة أو الوزير نفسه ليفجعنا بأن ذلك غير كاف، وأن نسبة امتلاء السدود ضعيفة، و أننا تحت خط الفقر المائي، و أن العام سيكون صعبا، و هناك قرارات موجعة …
الله يوجعكم وجعا لا شفاء منه … القيامة قائمة هذه الأيام على تداعيات الحرب و خاصة حول قمح روسيا وأوكرانيا، و الدول راحت كل واحدة تتفقد مخزوناتها من الحبوب، و تحسب و تجمع و تطرح … و نحن لا يكفي أننا أضعنا كم من صابة مضت و ألقينا بها على حواف الطرقات نهبا للعصافير و السيارات و نزوات الريح … بل ها نحن نهزأ طولا و عرضا بحال فلاحتنا و كيفية استفادتها من أيام المطر … و كأنها ستدوم كامل العام …