فيم نختلف عن زارعي الألغام في جبل الشعانبي … فيم نختلف؟
نشرت
قبل 3 سنوات
في
عندما كان ملعب “ستاد دي فرانس” يهزج نصرا و نشوة بفوز منتخب الديوك ذات 12 جويلية 1998 بكأس العالم لكرة القدم، و كان اللاعبون يرقصون و يطوفون الميدان بالجائزة الأثمن، توجّه الصحفيّون طبعا إلى مدرّب الفريق المتوّج و تبادلوا معه أسئلة و أجوبة يقتضيها المقام الاحتفالي … السؤال الوحيد الذي أجاب عنه “إيميه جاكيه” دون فرح و لا احتفال هو: “في هذه الليلة السعيدة هل سامحتَ مَن هاجموا المنتخب طيلة الأشهر الأخيرة؟” … فكان رده كالنصل: “لا” !
يعودني شيء من تلك الصورة هذه الأيام، بل البارحة بالذات، و أنا أشاهد أبناء منتخبنا يغادرون فندقا بالعاصمة متوجهين إلى المطار و منه إلى الكامرون، أرض الكأس الإفريقية للأمم … كانوا زمرة من الشبان و كأنهم أيتام خارجون لامتحان الباكالوريا في موسم دراسيّ صعب و رحلة مليئة شوكا و حُفرا و أحجارا، و خبرا محزنا يليه خبر محزن، و قارّة لا تزال عدوانية متوحشة، و وضع داخلي يحشّ الأرجل، و رأسمال بشري و مادّي و معنوي من هواء … و لكن على الجانبين، وقف طاقم الفندق التونسي بكامل أزيائه و أناقته، وأفراده يصفقون بحرارة لهؤلاء البضعة و عشرين ولدا … و يظلل الجميع صوت أليف مهيب قادم من عروق القلب: نشيدنا الوطني …
ما عاد إلى الأذهان ليس انتصار زيدان و رفاقه منذ ربع قرن، فتلك فرضية في علم الغيب … لغير المحظوظين و للمحظوظين أيضا … و لا حتى الظروف اللوجستية و ما أبعدنا عن فرنسا أوّلا لأنها من القوى المتقدمة العظمى، و ثانيا لأن دولة شيراك وقتها سخّرت وسائل مهولة لكي ينجح تنظيم تلك الكأس، و ثالثا لأن التناغم بين الدولة (جاك شيراك) و الجامعة (فرناند ساستر) و الاتحاد الأوروبي ممثلا في الفرنسي ميشال بلاتيني، كان كاملا مكتملا، و هدفه الرئيس كان ظفر فرنسا بكأس العالم … و بكل الطرق لو لزم الأمر … و كم سال من الحبر عن هذه النقطة في ما تلا من سنوات …
“البيمول” الوحيد في هذه المعزوفة، كان الصحافة الرياضية بالبلد السداسيّ الأضلاع … و دون أية مبالغة، تعتبر بعض العناوين الصحفية هناك، من أقوى بل أقوى ما هو موجود في أوروبا و العالم ربما … فهي التي تسند الكرة الذهبية الذائعة الصيت، و هي التي تؤثر في مجريات دورة فرنسا الشهيرة للدرّاجات، و دورة فرنسا الدولية للتنس (رولان غاروس) مع طائفة من التظاهرات الأخرى في رياضات مختلفة … كلمتها مسموعة، وجمهورها واسع، و بإمكانها أن ترفع من أسهم هذا اللاعب أو ذلك المدرّب أو تنزل بها إلى القاع، في لمح البصر … و لعل الراحل “برنار تابي” بقي يذكر ما فعلته به و أين أوصلته، حتى آخر حياته …
صحافة فرنسا كان لها خلاف جذريّ مع “جاكيه” في كل شيء تقريبا، في فلسفته الدفاعية، في عناده المفرط، في تخليه عن أغلى نجمين وقتها (كانتونا، و جينولا)، و تعويضهما بحفنة من المغمورين و صغار المهاجرين و نزلاء الأحياء الرثّة … لم يغفروا له حتى لهجته الريفية بعض الشيء، و التي بقيت له من مسقط رأسه بالجنوب الشرقي البعيد … هاجموه، لاحقوه، سخروا منه، وصموه بشتى النعوت، تنبؤوا بمستقبل حالك لفريقهم، قاطعهم مرة فقاطعوه مرات … و شهد المنتخب الفرنسي أعنف أزمة اتصال في تاريخه، و كل هذا و موعد المونديال الباريسي يقترب، و الاستثمار أرقامه فلكية …
البقية لا ضرورة لاستعراضها بعدما قلناه في الأول، كما لا داعي أيضا للتذكير بالظروف التي سافر فيها “بيارزوت” مع المنتخب الإيطالي سنة 1982 و نصف لاعبيه خرجوا لتوهم من السجن، و لا عن نفس الطلاين في 2006 و هم يقصدون نهائيات ألمانيا تحت تهديد القضاء و المافيا … و لكن … لا يعرف الفرنسيون و لا الإيطاليون أن أزماتهم حلوى، و مصاعبهم جنة، و العصيّ في عجلاتهم بسكوي سيّدة … لو وجّهوا هذه الأيام نظرهم أكثر جنوبا، وراء البحر المتوسّط، في أعلى “طنـڨورة” للقارة المقابلة، قارة إفريقيا … حيث توجد دولة اسمها تونس، يعرفونها طبعا، و لكن لا يعرفون أن فيها منتخبا يكاد بعض مواطنيه يطلقون عليه الرصاص …
نعم، نعم … لست من أنصار الجريء و لا الكبيّر و لا عمّار بو الزْوُر، و لا دخل لي في معارك ملوك الطوائف التي تحتدم في أكثر من ركن مظلم، و على أكثر من بلاتوه مُضاء … و لكنني أرى من العيب أن تستمرّ هذه الحملة المتخلّفة على منتخبنا ساعات قبل أشرف معاركه … و على أبناء (و أحفاد حتى) تركوا عائلاتهم و عقودهم وأنديتهم الغاضبة، و راحوا يحاربون ذودا عن اسم تونس في منطقة خطرة تحيط بها شبه حرب أهلية … ألم يكفهم سوء الحظ، و الإصابات، و كورونا، و التشكيك في جدارة معظمهم، و التمارين في الظلام، و إلغاء المباريات التحضيرية، و معركة المراول و الجمارك و يمكن “يطلعلهم لوسي”، من عندنا طبعا، و يمكن حتى أن تتذكرهم إدارة التجنيد أو شرطة الإنتربول هذا الصباح بالذات …
ما هذا؟ … صحيحة هي التحديات التي لاقتها منتخبات أخرى على طريق المجد كما ذكرنا آنفا، و لكننا زدنا عليها درجة أو درجتين بشماتة منقطعة النظير … شماتة؟ بل غباء شبيه بالمعركة التي حصلت مع الملولي قبل طوكيو بقليل و رأينا النتيجة … غباء لأن تلك اللقطة الجارحة التي خرجت مع إعلان كأس إفريقيا، لم تضع على الأرض صورة رئيس الجامعة أو مدرب المنتخب … بل نجمتنا و هلالنا و رايتنا كرة بين الأرجل و الوجوه الضاحكة علينا …